لا شك أن عدم ضبط المصطلح والدقة في استخدام اللغة من دواعي تشوّش الفكر، ونلاحظ أن صحفنا وأجهزة إعلامنا وسياسيينا والكثير من مثقفينا كثيرا ما يطلقون العبارات ويستخدمون الكلمات دون أن يقيدوا اللفظ بمعناه. ومن أمثلة ذلك استخدامنا لكلمة «قومي» و»شخصية قومية» أو «لجنة قومية» كتلك التي تشرف على تسويق المرشح صلاح قوش عن إحدى الدوائر الجغرافية في المديرية الشمالية. إن كلمة «قومي» في هذا السياق تعني ما هو متجاوز للإقليم والجهة وممتد إلى سائر أنحاء البلاد والكلمة بهذا الفهم محدثة لأن «القومي» في اللغة العربية القديمة تعني «من يؤمن بوجوب معاونته لقومه ومساعدتهم على جلب المنفعة ودفع المضرّة، وقوم الرجل في هذا المعنى هم أقاربه وعصبيته وبهذا المعنى القديم تكاد تكون عكس المعنى المراد في الاستخدام الحديث لأن من يدعي أنه «قومي» فهو يريد أن يقول إنه ليس محصورا في عصبيته وأتباعه الأقربين فقط. و «القوم» في المعنى السوداني هم «أهل الله» أي من سلكوا في طريق التصوّف وجماعاته ولقد كانت هنالك مجلة خاصة بالتصوّف تصدر تحت هذا الاسم لا أدري إن كانت تصدر حتى الآن. واستخدام «قومي» بالمعنى المحدث جاءنا مثل كثير من المصطلحات الحديثة من مصر لأنه عند أهل الشام التي نشأت فيها فكرة ودعوة القومية العربية ما هو قومي هو ما يتجاوز القطر والبلد الواحد ليشمل جميع العرب لأنهم يمثلون قومية واحدة. ويستخدمون لفظ «قطري» و «وطني» عندما يريدون وصف ما هو منتمِ لحدود إحدى بلدان «الوطن» العربي فتجد عبارات من نوع «الحرس الوطني» و «الأمن الوطني» و»التراب الوطني» و»المنتخب الوطني» وهو ما نسميه «الفريق القومي» تقليدا لمصر وكنا نسميه في السابق «الفريق الأهلي السوداني» وعلى الرغم من أن أهل مصر قد أدخلوا الكثير من المفاهيم الحديثة في منطقة الخليج وأثروا في صحافتها ومقرراتها المدرسية لكن أهل الخليج قد كانوا للفظ «قومي» بالمرصاد ويعود ذلك إلى عهد الستينيات عندما كانت الحركة القومية العربية تصفهم بالرجعية العربية ولفظة قومي كانت تعني ببساطة بالنسبة لهم الإطاحة بعروشهم ومشيخاتهم فعلى الرغم من الأثر المصري فإن ذلك اللفظ لم يجد طريقا للخليج ومؤسساته وفي شمال أفريقيا لا تجده إلا في تونس حيث يستخدم بالتناوب مع لفظ «وطني» ولكن لا تجد له ذكرا في المغرب أو الجزائر. وتجد لفظ «قومي» ملحقا بأسماء الكثير من الأحزاب السياسية في السودان حرصا على الإشارة إلى اتساع الحزب باتساع الوطن ونفي الانغلاق أو الجهوية فسمى الأب فيليب غبوش، رحمه الله، حزبه «الحزب القومي السوداني» كأنه ينفي عنه تهمة متوقعة وهو الوصف بأنه حزب جبال النوبة إن لم يكن حزب النوبة. وعلى نفس المنوال سمت الحركة الإسلامية السودانية في مرحلة من المراحل «الجبهة الإسلامية القومية» وكأن «القومية» قد جاءت لنفي تهمة الانغلاق على المسلمين دون غيرهم مما يمكن أن توحي به لفظة «إسلامية». وسمى السيد الصادق المهدي حزبه عندما نافسه آخرون على الاسم «حزب الأمة القومي الجديد» تطلعا لأن يكون الحزب قوميا بحق وجديدا في نهجه وتفكيره وأحسبه قد أسقط لفظة «الجديد» عندما أعاد تسجيل الحزب أو أخطر بتسجيله في هذه الجولة الجديدة من التسميات ولقد أصدرت مفوضية الانتخابات قائمة ضمت الأحزاب التي منحتها رموزا لخوض الانتخابات اشتملت الكثير منها على لفظة «القومي» في اسمه ومنها حزب سانو القومي وحزب البعث العربي الاشتراكي القومي، عجبت للإصرار على قومي في تسمية البعث لأن لفظة «عربي» في هذا السياق تعني بالضرورة «قومي» بالمعنى البعثي للكلمة، وضمت قائمة الأحزاب أيضا الحزب القومي الديمقراطي الجديد، وحزب العدالة القومي، و الحزب القومي الديمقراطي المتحد. هذا إلى جانب الكثير من الأحزاب التي اشتملت على لفظة «الوطني» ومنها المؤتمر الوطني، وحزب الأمة الوطني، وحركة العدالة الوطنية، وحزب الإصلاح الوطني والحزب الوطني الاتحادي. والجديد في مجال التسميات هو دخول لفظة «فيدرالي» حيث تجد حزب الأمة الفيدرالي وحزب الحقيقة الفيدرالي وربما أراد أصحاب هذه الأحزاب التركيز على ضرورة الفيدرالية أو ربما اختاروها بمعنى قومي ووطني ولكنهم أرادوا الابتعاد عن اللفظتين المستهلكتين في تسمية الأحزاب. والحكومة القومية في استخدام أهل السودان تعني الحكومة التي لا يسيطر عليها حزب أو حزبان حتى وإن حازا على معظم المقاعد في البرلمان فالحكومة في معظم بلدان الدنيا تصير قومية بمجرد أدائها القسم فهي ليست حكومة الحزب أو الائتلاف الذي جاء بها ولكنها حكومة الجميع أما في السودان فالحكومة القومية هي التي تضم جميع الأحزاب في البرلمان أو حتى من هم خارج البرلمان حتى تنال شرف التسمية بأنها حكومة قومية وتزداد قوميتها إذا كانت حكومة تكنوقراط لا تضم أحزابا وإن ألحقت كلمة قومي باسمها. ومن المفاهيم الأخرى التي تشتبه على الناس في ساحة السياسة في السودان مفهوم «شخصية قومية» فالمعنى الأول الذي يتبادر إلى الذهن هو أن الشخصية الموصوفة بالقومية شخصية غير حزبية وربما كان من المفيد الوقوف عند عبارة «غير حزبية» هل تعني التسجيل في حزب أو اتخاذ مواقف منحازة لحزب في الشأن العام فإن كان مجرد الانتماء الحزبي ينفي الحزبية فالمعروف أن السيد على الميرغني والسيد عبد الرحمن المهدي لم يتسجلا في أي حزب في حياتهما وظلا في سلوكهما قولا وعملا فوق الأحزاب، يقدمان غيرهما للعمل السياسي فهل هما شخصيات قومية أم شخصيات حزبية؟ هل ثمة أدنى شك في «قومية» شخصية مثل الدكتور التجاني الماحي مثلا وهو قد دخل مجلس السيادة مرشحا من حزب. وربما قال قائل إن ثمة شرطا آخر لتنال الشخصية شرف «القومية» وهو توفر قدر من الاحترام والنزاهة والمقبولية لدى عدد كبير من الناس والتنظيمات الاجتماعية المختلفة بما فيها الأحزاب مثل إجماع الناس على شخصية مثل شخصية مولانا أبيل ألير. ولكن ما العمل إذا توفرت مثل هذه الشروط في شخصيات حزبية مثل السيد محمد إبراهيم نقد أو السيد الصادق المهدي على سبيل المثال وليس الحصر حيث قد لا يستطيع أحد أن يطعن في نزاهتهما أو تمتعهما باحترام يتجاوز أحزابهما. وأخيرا هل انتفت «قومية» شخصية مثل الدكتور كمال شداد مثلا بعد أن دخل المؤتمر الوطني، هل انعكس دخوله المؤتمر الوطني على أي من قراراته أو طريقة أداء عمله في المجال الرياضي كمجال مهم من مجالات العمل العام. وربما يتساءل المرء أيهما أكثر قومية في مواقفه كمال شداد أم المشير سوار الدهب رئيس «اللجنة القومية» لترشيح البشير حيث أن الكثيرين يتشككون في قوميته على الرغم من عدم انضمامه لحزب الإسلاميين المتهم بالقرب منه وعلى الرغم من اتخاذه قرار الانحياز للشارع لإسقاط نميري تحت ضغط الضباط الأصغر منه رتبة وربما كان هذا التشكيك في قوميته هو الذي حال دون أن ينجح في جميع محاولات رأب الصدع التي تصدى لها من منطلق أنه شخصية قومية وربما نال ترؤسه للجنة ترشيح البشير للرئاسة من ما تبقى له من صورة «شخصية قومية». والحرص على صفة «القومية» تجده أيضا لدى الصحف التي تستعيض عنه بوصف المستقلة وإن كانت منحازة انحيازا بينا لهذا الحزب أو ذاك، هدد صاحب أخبار اليوم مراسل البي بي سي ذات يوم في منتصف التسعينيات باللجوء للقضاء إذا استمر في وصف صحيفته بأنها «مقربة من الحكومة» وقد كانت الحكومة وقتها مجرد حكومة المؤتمر الوطني أو الحركة الإسلامية. وهذا الحرص على أن يكون كل شئ «قوميا» ربما كان هو الذي جعل السيد صلاح قوش الذي يخطو أول خطواته في طريق العمل السياسي بعد إقالته من رئاسة جهاز الأمن والمخابرات يستخدم اللفظ استخداما يناقض كل الاستخدامات التي ذكرنا. فهو مرشح دائرة جغرافية في الولاية الشمالية أعلن عن بداية حملته لها من خلال «اللجنة القومية لدعم المرشح صلاح عبد الله» وهذا أمر غير مسبوق فالدائرة الجغرافية هي بالضرورة محصورة في نطاقها الجغرافي ولأهلها اهتمامات خاصة بمحيطهم ويتوقعون ممن تصدى لتمثيلهم التعبير عن همومهم والعمل على حل مشاكلهم من الموقع في البرلمان القومي، ثم دعا الصحفيين من أبناء المنطقة للانضمام للجنة القومية كيف تكون قومية والدعوة لأبناء المنطقة؟ ومضى أكثر من ذلك قائلا « إن ترشحنا في الدائرة يلزمنا أخلاقيا بالوفاء بهذه الالتزامات أمام أبناء المنطقة لتحقيق الاستقرار في المجال الصحي والتنموي والتعليمي» وهذا بالطبع عين المطلوب من أي مرشح في دائرة جغرافية ولكنه أدهشنا وأدهش السامعين الذين خاطبهم في حشده الانتخابي عندما أردف مشددا على ضرورة أن تكتمل المنظومة التي تقود حملة لفوز البشير حتى يستطيع تحقيق وتنفيذ البرامج التنموية بالمنطقة، وقال « إذا فزت أنا ولم يفز الرئيس لن يتحقق أي وعد أو أي شئ من هذا القبيل، مضيفا أنه دون المؤتمر الوطني لا يساوي شيئا» تأملوا العبارات أعلاه وقولوا لي برأيكم ما هو «القومي» فيها؟ قلنا إن السيد قوش تبدو عليه سمات السياسي المبتدئ وهذا الحكم تجد تأييدا له في كل تصريح يصدر منه فإذا تأملنا التصريح أعلاه نجد أنه قد ربط قدرته على خدمة أهل الدائرة بفوز مرشح الحزب لرئاسة الجمهورية وهذا مستوى آخر ينبغي أن لا يشغل أهل الدائرة وإن اهتموا به، فالأولى على مرشح الدائرة أن يركز على ما يزكيه في محيط الدائرة الأجدر أن يقول لأهل الدائرة إنه يأمل أن يفوز الحزب في كل المستويات وإن لم يفز مرشح الحزب للرئاسة أو مرشح الحزب لمنصب الوالي فإني سأضاعف من جهدي لخدمة المنطقة، لو قال ذلك لبدى أكثر مصداقية عند أهل الدائرة فالقول بأن عليكم أن تفوّزوا البشير وإلا لن تروا خدمات يمثل عدم حنكة سياسية لا تليق بمرشح يعتقد أنه أوسع من الانتماء الإقليمي والقبلي وربما طرب للأحاديث عن أنه رجل السودان القوي الذي ربما يكون بديلا للبشير وأنه صديق المخابرات الأمريكية وما إلى ذلك من أقاويل. وإذا عدنا لحديث القومية من جديد نجد أن السيد قوش قد ذكر في تصريح آخر أنه لا داعي للتخوف من التزوير لأن المؤتمر الوطني إن حاول التزوير فإن أجهزة الشرطة والأمن المنوط بها تأمين الانتخابات ستتصدى للأمر وهذه أجهزة قومية. هكذا يلقى القول عن قومية هذه الأجهزة وكأنه يحدث ضابط مخابرات أجنبي في بهو فندق خارج السودان هل نسى أن هنالك لفظة اسمها «التمكين» كانت هي السياسة المتبعة خلال عشرين عاما وفي أجهزة الأمن أكثر من غيرها هل فات عليه أن أهل السودان جميعهم يعرفون أنه ما من سبب يجعله وهو المهندس يدخل جهاز الأمن ويصير رئيسا له إلا لأنه كان في مكتب المعلومات في الاتجاه الإسلامي على أيام الجامعة وليس لتأهيل ناله في مجال الأمن والمخابرات أو لمزايا شخصية أخرى. ربما كان تشكيك بعض إخوته في التنظيم في ولائه للحركة الإسلامية وطموحه الزائد الذي قاد لإقالته من الجهاز سببا وراء حرصه على التأكيد على أنه مرشح المؤتمر الإسلامي وهو الذي جعله فور إقالته يسارع للمشاركة في أعياد الدفاع الشعبي تأكيدا لولائه لا حرج في تأكيد الولاء الحزبي فهو دون الحزب لا يسوى شيئا كما ذكر، ولكن فليدع الحديث عن القومية واللجنة القومية ويركز على قضايا الدائرة وأن يتخذ له مستشارين يعينونه في إعداد الخطب المناسبة حتى لا يستخدم عبارات من نوع «ما قدمته الإنقاذ للشعب يدعوه للتسبيح بحمدها ليل نهار» هذه الإطلاقية في الأحكام في سياق خطب ود وأصوات ناخبين وليسوا جنودا يأتمرون بأمر المتحدث تقود لعكس المراد ولن تحتاج لتكون مختصا في علم الدلالة أو تحليل الخطاب لتعرف أن محمول هذه العبارة يقود سامعيها ممن لا يتفقون معه فيها، هم كثر، إلى التفكير ليس فيما أنجزته الإنقاذ وإنما في ما لم تنجزه مما يجعل أنصاره في حالة دفاع عن إنجاز الإنقاذ وهكذا يصعّب من مهمته في الفوز بالدائرة. وليته اعتبر بعباراته التي سارت بها الركبان عن «تقطيع الرءوس والأوصال» والتي ستظل ظلالها تلاحقه على المستوى السياسي والأخلاقي وربما صارت بينة ضده يوما إن وقف أمام محكمة دفاعا عن سجله في جهاز الأمن الذي كان كثير مما يحدث فيه ليس مما يسر السامعين. وما سقط بوش الأب في انتخابات التجديد وهو الخارج منتصرا من حربه ضد العراق لتحرير الكويت إلا لضعفه في التواصل مع الناخبين وعدم قدرته على استخدام العبارات المناسبة ولقد جاء بوش إلى السياسة من بوابة السي آي أيه كما هو معروف. *نيويورك