بعد صدور قانون الاستفتاء ومع اقتراب موعد الاستفتاء نفسه بعد حوالى سبعة شهور من الآن،فانه من المؤكد أن يحتدم الجدل حول مسألة تقرير مصير الجنوب وحدة كانت أم انفصالا.وموضوع الوحدة أو الانفصال هو موضوع حساس وقد يجده البعض مؤلما وبالذات الاجيال التى تعودت أن ترى السودان بلد المليون ميل مربع كأكبر بلد فى افريقيا.وأذكر أنه فى مطلع 1991 كتبت مقالا أؤيد فيه فكرة القبول بمبدأ تقرير المصير وكنت وقتها أعمل بجامعة الجزيرة.وحملت المقال وحضرت لمبانى جريدة السودان الحديث أو الانقاذ الوطنى-لاأذكر على وجه التحديد.وكان يرأس تحريرها وقتها شخص لا أذكر اسمه بالكامل لكن فيه عبد الكريم.ونظر الرجل الى المقال وقال لى بالحرف الواحد»يعنى أنت يادكتور جاى من مدنى وعاوزنى أنشر ليك مقال عن تقرير المصير والحكومة بتفاوض فى أبوجا؟»وأخذت مقالى وعدت أدراجى متفهما حساسية الامر والظرف. وتمر الايام وتشاء الظروف أن ينعقد مؤتمر القضايا المصيرية فى أسمرا-أرتريا فى صيف 1995 وكنت وقتها أعمل محاضرا فى جامعة أسمرا متطوعا مع الاممالمتحدة.وفى هذا المؤتمر أقر التجمع الوطنى ولاول مرة فى تاريخ السودان بمبدأ تقرير المصير.وكما متوقع انهالت تهم التآمر على التجمع الوطنى من كل جانب وعلى الاحزاب التى شاركت فى المؤتمر واتهمت بالتفريط والتآمر على وحدة البلاد وبالذات من الانقاذ ومنظريها.ولكن من سخرية الاقدار أن الانقاذ نفسها عادت وتبنت مبدأ تقرير المصير فى نيفاشا بكينيا و بعد عشرة أعوام كاملة وبعد أن دفع الشعب السودانى فاتورة الحرب الباهظة لتمويل عمليات صيف العبور فضلا عن عشرات الآلاف من الشهداء الذين نسأل الله أن يتقبلهم قبولا حسنا .فقد فشل الحل العسكرى كما هو متوقع وازدادت الضغوط الخارجية على نظام الانقاذ كما تدهور الاقتصاد بشكل لم يسبق له مثيل .وبدأ السودان يتصدع فى الغرب والشرق أيضا. وهكذا فقد أجمع السودانيون معارضة وحكومة على مبدأ تقرير المصير للجنوب.وبما أن المعارضة والحكومة تمثل كافة الشعب السودانى بكافة ألوان الطيف السياسى فذلك يعنى اجماع كل السودانيين على مبدأ تقرير المصير .وبالتالى فان تحميل الانقاذ مسؤولية فصل الجنوب-فى حالة حدوثه-ليس صحيحا ويأتى من باب الكيد السياسى ليس ألا.وطبيعى أن ينقسم السودانيون بين مؤيد ومعارض لانفصال الجنوب.وأذكر أننى شاهدت حلقة نقاش فى قناة الجزيرة قبل عدة أشهر تقريبا بين الطيب مصطفى وهو من مؤيدى الانفصال ومحامى فى الجانب الآخر يلقى باللائمة على أهل الانقاذ فى حال حدوث الانفصال.وقد كانت حرارة الحلقة تعكس حساسية الموضوع تماما كما كنت أسمع من المثقفين الاثيوبيين عندما وافقت حركة ميليس على حق تقرير المصير وتقاسمت مع حركات التحرير الارترية الدور من أجل اسقاط منقستو.فالمعسكر الذى يؤيد انفصال الجنوب حججه تتمثل فى: 1-ان الجنوب ظل عبئا ثقيلا على الشمال منذ الاستقلال وكان سببا فى عدم الاستقرار السياسى فيه. 2-ان كل المعالجات السابقة لحل المشكلة قد باءت بالفشل. 3-أن هناك اختلافات ثقافية وأثنية كبيرة بين الشمال والجنوب تستحيل معها الوحدة. أما المعسكر المعارض للانفصال فيبرر موقفه بالاتى: 1-ان الجنوب غنى بالثروات الطبيعية والتفريط فيه يهدد الامن المائى للسودان ومصر على حد سواء. 2-ان الاختلافات الثقافية بين الشمال والجنوب قد تكون عنصر قوة بدلا من ان تكون مبررا للانفصال. 3-ان انفصال الجنوب سوف يفتح الباب على مصراعيه لمشاكل الحدود والتداخل والتماس القبلى. وبالتفكير العميق فى الحجج التى يقدمها المعسكران يجد المتأمل نفسه يتفق مع الكثير منها. والاختلاف هو شىء طبيعى وسنة الحياة والبشر بشرط أن تكون ادارته ديموقراطية يستجاب فيها لرغبة الاغلبية من الجنوبيين أصحاب الشأن.وبما أن قانون الاستفتاء قد صدر فان المنطق يستوجب الآن أن يكون رأى أهل الجنوب هو الفيصل فى هذه المسألة: فاما أن يختاروا وحدة طوعية تنهى شعورهم بالدونية وغبنهم من أهل الشمال أو أن يختاروا دولتهم ويعيشوا فى سلام مع جيرانهم فى الشمال. وحتى يقرر الجنوبيون ذلك،يجب أن ينصب اهتمام الحكومة والمعارضة على أمرين اثنين لاثالث لهما: الاول هو تهيئة المناخ حتى يتم الاستفتاء بكل نزاهة وحرية حتى لاتتكرر تجربة الانتخابات الاخيرة والتى شكك فى نزاهتها حتى مركز كارتر..أما الامر الثانى فهو مايتعلق بالترتيبات التى تعقب قرار الانفصال فى حال كان ذلك خيار أهل الجنوب.وهو أمر لم تعره الحكومة أو المعارضة أى أهتمام .هذا بالرغم من أن كل المؤشرات والمعطيات تميل الى تفضيل الانفصال.ومسألة الترتييبات هذه مهمة للغاية حتى يتم الانفصال بسلاسة ونتجنب ماحدث بين اثيوبيا وارتريا بشأن منطقة بادمى الحدودية .وبالتالى لابد من حسم مسألة الحدود والتداخل القبلى ومصير الجنوبيين فى الشمال.ثم ماذا أعدت الحكومة من خطط لتفادى انهيار الاقتصاد بسبب فقدان عائدات البترول التى تمول أكثر من 50% من ميزانية الدولة بعد تدهور الصادرات الاخرى! كلمة أخيرة نحن نأمل أن تأتى نتيجة الاستفتاء لصالح الوحدة ولكن علينا أن نتحسب لاحتمال الانفصال الذى بات الآن أقرب أكثر من أى وقت مضى. فقد بدا واضحا من ادارة الحركة الشعبية للعملية الانتخابية أنها أصبحت زاهدة فى الشمال وأنها أدارت ظهرها كلية للسودان الجديد الموحد الذى كان يتبناه مؤسس الحركة الراحل د.جون قرنق.وبالرغم من مشاكل الانفصال المتوقعة، علينا فى الشمال أن نتفاءل بذلك اذا ماكان هو خيار الجنوبيين.فليس لنا رغبة فى وحدة مفروضة كانت سببا فى اهدار موارد البلاد وعدم الاستقرار السياسى لفترة نصف قرن من الزمان بالتمام والكمال.نريد استقرار البلاد حتى بدون الجنوب حتى نلحق بركب الامم المتحضرة.ويكون لنا نظام ديموقراطى مستقر ويكون انقلاب عمر البشير فى 30 يونيو 1989 هو آخر انقلاب عسكرى فى تاريخ السودان السياسى الحديث.نريد أن توجه الجهود لبناء السودان الحديث بدلا من أن يكون أبناؤنا وقود حروب أهلية بين الشمال والجنوب تقوم بين الحين والآخر.نريد سودانا حديثا وقويا حتى ولو بمساحة نصف مليون ميل مربع بدلا من سودان بمساحة مليون ميل مربع وأكثر من نصف سكانه يعيش تحت خط الفقر!وفى حال الانفصال فان الشمال لن يفشل بسبب فقر موارده الطبيعية اذ نه غنى بموارده البشرية وكذلك الطبيعية بدليل أن جنوب السودان لم يساهم سوى بالقدر القليل من الدخل القومى منذ الاستقلال.واذا كان الجنوب غنى بموارده الطبيعية فألف مبروك لاخواننا الجنوبيين الذين عانوا ويلات الحرب أكثر من نصف قرن! وللذين يتخوفون من أن تتقلص مساحة السودان بعد الانفصال أقول:لكم فى سنغافورة وماليزيا عبر ودروس. سنغافورة دولة يقال لها دولة مدينة واحدة وهى أقل من ولاية الخرطوم فى مساحتها وهى تستورد الكثير حتى الماء من ماليزيا ولكنها نهضت بفضل مواردها البشرية والاستقرار السياسى والتخطيط السليم حتى حققت معجزة اقتصادية نحتاج لعشرات السنين لبلوغها!!. و تعيش فى رغد والكل يتمنى أن يكون مثل سنغافورة. ماليزيا فى الجانب الآخر أصبحت احد النمور الآسيوية واحدى الدول الصناعية الحديثة وهى تخطو للامام بخطى ثابته .أنا متفائل بمستقبل السودان حتى لو حدث الانفصال ومتأكد أن الشعب السودانى سوف يتهنأ بثمرة الاستقرار والتنمية المرتقبة مع السلام وسوف ينسون أن الجنوب كان جزءا من السودان فى أقل من عشر سنوات! ترى كم من الماليزيين يعلمون أن سنغافورة كانت جزءا من بلادهم؟ عميد كلية العلوم الادارية بجامعة السودان العالمية