انتقل الاعتقاد السائد في الاوساط السياسية العامة بترجيح خيار انفصال الجنوب في استفتاء حق تقرير المصير المقرر في عام 2011م، الى ورش العمل التي يرتادها المثقفون والأكاديميون، فقد شهدت قاعة المفوضية القومية للمراجعة الدستورية أمس ورشة عمل قدمت خارطة طريق لكيفية تحقيق الانفصال بهدوء ودون مشكلات تعيد حالة الحرب من جديد، تشمل حفظ حقوق المواطنة للجنوبيين الذين يقيمون في الشمال والشماليين الذين يقيمون في الجنوب، ومنح الطرفين» الجنسية المزدوجة»، والتمهيد لسكان مناطق التماس بفترة انتقالية، وحسم قضية ترسيم الحدود قبل الوصول الى موعد الاستفتاء، ومعالجة نتائج التعداد السكاني، والاحتياط منذ الان باختيار اسم لدولة الجنوبالجديدة سواء قرر الجنوبيون الانفصال أو الوحدة، والاستفادة من تجربة الشيك وسولفاكيا في هذا الخصوص. وركزت كافة الافكار التي طرحت في الورشة من قبل المتحدثين الأساسيين والمداخلات، على ترتيبات مابعد اجراء عملية الاستفتاء على افتراض أن النتيجة هي خيار الانفصال،بينما أكد الرئيس المشترك للمفوضية القومية للمراجعة الدستورية الدكتور عبد الله ادريس ان الهدف من الورشة لفت الانتباه الى قضايا ما تزال عالقة تتصل بتقاسم عائدات النفط وترسيم الحدود والمواطنة، وطرح بدائل وخيارات امام متخذي القرار في كافة القوى السياسية والاوساط المعنية، واوضح أن الورشة غير معنية بصياغة مسودة مشروع قانون بديل للاستفتاء، ولكنها تهدف الى تقديم توصيات ومقترحات حول قضية ترتيبات ما بعد الاستفتاء. من جهته، تحدث الدكتور بيونق دينق عضو لجنة محادثات نيفاشا عن الحركة الشعبية والمنسق الحالي لمشروع المعهد الأفريقي بجنوب افريقيا، عن رؤيته لقضايا المواطن بعد نتيجة الاستفتاء على حق تقرير المصير للجنوب، واعترف بفشل الشريكين «المؤتمر الوطني والحركة الشعبية» في تحقيق حقوق المواطنة والاحتياجات التي أقرتها اتفاقية السلام الشامل «2005م»، ورأى أن المخرج من هذا الفشل بتطبيق الاتفاقية، فيما يخص انفاذ اجراء حق تقرير المصير في موعده المحدد، وبطريقة متفق عليها، والتوقيع على مسودة قانون الاستفتاء. لكنه رأى أن هنالك قضايا تستلزم الاتفاق حولها قبل الخوض في عملية الاستفتاء في مقدمتها وضعية الجنوبيين في الشمال ووضعية الشماليين في الجنوب بعد عملية الاستفتاء، سواء كان الخيار هو الانفصال أو الوحدة، فضلا عن الالتزام بالدستور القومي والقانون واحترام ترتيبات الاستفتاء من قبل الحكومة في الشمال والجنوب، موضحا أن هنالك حديثا يدور أن المواطنين الجنوبيين في الشمال سيعتبرون «لاجئين» فور اعلان نتيجة الاستفتاء لصالح خيار الانفصال، داعيا الى بحث مثل هذه الموضوعات، والنقاش حول حقوق هؤلاء وكيفية توفير الحماية لهم، ومدى امكانية طرح مقترح» الجنسية المزدوجة» للنقاش، خاصة وانه يطرح بشدة في اروقة الحكومة وخارجها ويتم نقاشه في الاتحاد الافريقي، فضلا عن نقاش مواز حول الحياة المشتركة بين الشمال والجنوب، خاصة بين سكان مناطق التماس، والبحث عن كيفية تساعد المواطنين الجنوبيين في الشمال ، والشماليين في الجنوب لتكييف أوضاعهم. وقال الدكتور دينق أن هنالك فرصا لخيار ثالث من حق تقرير المصير «الكونفيدرالية» في حال نفذت كافة بنود اتفاقية السلام الشامل، لكنه رأى معوقات تجهض مبادئ بروتكول ميشاكوس المتصلة بحقوق المواطنة، فيما يتعلق بقضايا ترسيم الحدود، ومشكلات نتائج التعداد السكاني، محذرا من أن مثل هذه القضايا قد تعيد الحرب من جديد، داعيا منظمة الاممالمتحدة للمساهمة بدور يجنب اشتعال حرب جديدة. وفي تعقيبه على رؤية الدكتور بيونق دينق، دعا عميد كلية العلوم السياسية بجامعة الزعيم الازهري الدكتور اَدم محمد أحمد الى أن تدرس ترتيبات الاستفتاء على افتراضين «الوحدة والانفصال»، مؤكدا أن قضية المواطنة من أهم النقاط التي تتطلب دراستها باستفاضة بسبب كونها القضية التي تسببت في كافة الحروب الاهلية في السودان منذ ما قبل الاستقلال، معتبرا أن كافة الحركات حملت السلاح احتجاجا على موضوع حقوق المواطنة في العضوية المتساوية في الوطن الواحد دون تمييز على اساس اللون او العرق او الدين. وأعتبر الدكتور محمد أحمد أن تجربة الانفصال بدولة «تشيسلوفاكيا» هي الاقرب للسودان، بسبب حدوث انفصال سلمي الى دولتين «الشيك وسولفاكيا» ، واقرت المحاكم في الدولتين بعد سنوات منح المواطنين حق الحصول على «الجنسية المزدوجة»، حيث أن الفارق اصلا بين الذين صوتوا لخيار الوحدة والانفصال كان ضئيلا، رغم أن التجربة التشيكية تختلف في عدد من النقاط عن عملية الاستفتاء في السودان، معربا عن أمله في أن يكون المواطنون الجنوبيون المقيمون بالشمال والشماليون المقيمون في الجنوب عاملا لاختيار الوحدة سواء من خلال عملية الاستفتاء او مستقبلا في حال انفصل الجنوب، لكنه اعرب عن خشيته ايضا من ان يكون هذا العامل هدفا للاستغلال من كلا الدولتين لتصفية خلافات الانفصال. وفي منحى اخر للقضية، ناقشت الورشة مسألة الاتفاقيات والتفاهمات حول حقوق السكان في مناطق التماس، كحرية الحركة للرعاة والرحل والماشية والسلع التجارية والخدمات. وقدم الاستاذ بجامعة الخرطوم الدكتور ابراهيم أبوعوف، تعريفا بالمنطقة المستهدفة باسم «مناطق التماس»، مشيرا الى انها تحتضن قبائل عديدة، وتضم حوالي 80% من الثروة الحيوانية للبلاد، واراضيها الزراعية بنحو 75% ، وتضم حوالي 60% من انتاج الصمغ العربي، وسرد الدكتور ابوعوف تاريخ الاتفاقات بين السكان، التي مثلت عاملا مهما في علاقات الشمال بالجنوب، ونموذجا للتعايش السلمي الاجتماعي، والتواصل الاقتصادي ، والمصالح المشتركة، موضحا ان ما يسمى ب»مناطق التماس» اعتمدت في تعايشها السلمي الاجتماعي على عوامل تتعلق بالارض، حيث خفضت المساحة الجغرافية الكبيرة للمنطقة من النزاع حول الموارد، اضافة الى مؤسسة الاعراف والتقاليد التي شكلت أساس النظام الاجتماعي ومؤسسة الادارة القبلية «الادارة الاهلية» الطوعية التاريخية التي تقوم بتطبيق القانون والعرف بطريقة مرضية. ورأى أن حقوق مواطني مناطق التماس تشمل حرية الحركة وتبادل المنافع وتحقيق المصالح المشتركة، داعيا الى كفالة هذه الحقوق في حالة الانفصال والا اصبحت مناطق توتر في علاقات الشمال والجنوب. من جهته، قدم الدكتور صفوت فانوس أستاذ العلوم السياسية بجامعة الخرطوم مقارنة بين حق تقرير المصير في عام «1956م» وبين حق تقرير المصير لعام «2011م»، وطرح اسئلة بشأن اوجه الاختلاف والشبه بين التجربتين، على خلفية الجدل الذي اثير حول امكانية اعلان استقلال جنوب السودان من داخل البرلمان كما حدث عام 1956م باختيار استقلال السودان بدلا من خيار الوحدة مع مصر. وذكر فانوس ان اوجه الشبه تتعلق بالتداخل السكاني والثقافي بين الشعبين المصري والسوداني، كما حصل بين الشمال والجنوب، والانقسام في الرأي العام السياسي «مجموعات نادت بالاتحاد مع مصر، واخرى دعت الى شعار السودان للسودانيين»، اضافة الى أن الامن المصري ارتبط بالسودان وكذلك يرتبط الامن القومي السوداني بالجنوب، بجانب وجود عامل شبه خارجي يتمثل في دعم بريطانيا وقتها لاستقلال السودان في مقابل مجتمع دولي يتعاطف حاليا مع استقلال جنوب السودان. وحدد اوجه الاختلاف في نقاط تتعلق بالتباين الديني والاثني، والحرب الاهلية التي وقعت بين الشمال والجنوب وتداعياتها «المرارات» وتباين حالة التطور الثقافي والاقتصادي والاجتماعي بين الجانبين، وتنافس دول الجوار على النفوذ في الجنوب فيما كانت مصر دولة واحدة تعمل على زيادة نفوذها في السودان بعد الاستقلال، الى جانب حجم التداخل السكاني بين الشمال والجنوب في مناطق التماس، فيما لا توجد منطقة كبيرة للاحتكاك السكاني بين السودان ومصر. وخلص الدكتور فانوس الى الاستفادة من تجربة التعامل المصري مع السودان بعد الاستقلال في حالة انفصال الجنوب، لجهة تحمل الشمال لمسؤولية ترتيبات ما بعد الانفصال، وجعل العلاقة طبيعية بين الدولتين، وتطبيق قبول خيار الجنوبيين دون اية شروط والدعم الايجابي للقوى السياسية الجنوبية المؤيدة لخيار الوحدة، والسعي لتفادي عدم الدخول في مواجهة عسكرية بين الجانبين.