٭ رحل قبل أيام قليلة عن دنيانا المبدع ذو النون بشرى الذي يعد أحد أبناء جيله المحظوظين، حيث تتلمذ على أعمدة إذاعة أم درمان الأوائل وبناة لبناتها الأولى أمثال محمد صالح فهمي، خاطر أبو بكر خانجي، علي شمو، أحمد الزبير الذين اعتبرهم مدارس إذاعية قائمة بحالها لا تكرر، مؤكدا أن العطاء الذي قدم خلال الستينيات والسبعينيات والثمانينيات عطاء وافر وثرٌ لا مزايدة فيه.وكان الزميل فتح الرحمن محمد يوسف قد أجرى حورا مع المبدع الراحل ذو النون بشرى ابان زيارته الى العاصمة السعودية الرياض ، ونشر في صفحة «مع المهاجر».. ولقيمة الحوار وأهميته نعيد نشره مرة ثانية، حيث يقول الراحل: إن «أفراح العرب» أول برنامج قدمه إلى الإذاعة، ومع أنه وجد نفسه في برامج المنوعات، إلاّ أنه أكد أن «مع رواد أغنية أم درمان» أهم أحبّ وآخر برنامج قدمه، وتمنى استمراريته، والتي رأى صعوبتها في ظل رحيل رفيقه في هذا المشوار المحلل الموسيقي الفريد «أميقو». وبكل الحنين للماضي يبدي ذو النون خوفه على الإذاعة من الخطر الذي يتهددها بسبب تساقط الخبرات والقمم الإذاعية، سواء بالموت أو الإحالة إلى المعاش أو الإقصاء والإبعاد، مؤكدا أن الشهادة الجامعية وحدها لا تكفي لخلق وحفظ التميز الإذاعي الموروث. وذو النون الذي يسكنه مزيج من الحزن والأمل مازال يتذكر أيامه سجنه في كوبر عقب انقلاب هاشم العطا، وإعداده لبرنامجه «صباح الخير يا وطني» لأكثر من خمسة آلاف سجين، وصحبته لوردي ومحجوب شريف وود اللمين وهم يغنون لكسر حدة السجن والصمت، ويكتبون الأشعار، ويعبرون عن أفكارهم وحريتهم المسلوبة بالفحم والطين. والكثير المثير بين ثنايا هذا الحوار الذي أُجري بالعاصمة السعودية الرياض خلال زيارته لها أخيراً: ٭ من هو ذو النون بشرى وكيف دخل محراب إذاعة أم درمان؟ - من مواليد أم درمان، حيث نشأت وترعرعت ودرست بها جميع المراحل الدراسية. وتنقلت بحكم عمل والدي ضابطاً في الشرطة في كل أنحاء السودان تقريبا، ومنها بورتسودان وكردفان ودارفور والجزيرة والشمالية.. إلخ . والتحقت بالإذاعة السودانية في فجر الستينيات من القرن الماضي وتحديدا في عام 1961م، وعملت بها وابتعثت إلى القاهرة إلى معهد التدريب الإذاعي، ونلت زمالة المذيعين العرب، وعدت إلى العمل الإذاعي لمواصلة المشوار. وأثناء العمل تقلدت عدة مناصب منها مدير إذاعة ود مدني ومدير إذاعة جوبا ومدير إذاعة نيالا ومدير إذاعة ولاية الخرطوم ومدير إذاعة كسلا ومدير لإذاعة البرنامج الثاني، وأخيرا مديرا لإذاعة وادي النيل، وبعدها تقاعدت إلى المعاش في 2003م. ٭ كيف بدأت حياتك الإذاعية وأنت تدلف إلى حوش الإذاعة السودانية العملاقة للعمل بها لأول مرة؟ - أول برنامج قدمته إلى الإذاعة بعد «2 - 3» أشهر من دخولي حوش الإذاعة كان اسمه «أفراح العرب»، والتقيت فيه مع الجاليات العربية الموجودة في السودان في ذلك الزمان، وأذكر من بينها الجاليات المصرية والعدنية واللبنانية. وكان البرنامج بتناول العيد في بلدانهم، ويتحدث عن عاداتهم وتقاليدهم وأنماط حياتهم وأغانيهم، وكل ما يتعلق بفرحة العيد ومظاهره في تلك البلاد العربية، ومن ثم أصبح البرنامج ملكا للإذاعة ويقدم في كل دورة إذاعية في ذلك الزمان. ٭ حدثنا عن رفقتك وأولاد دفعتك؟ - نحن كنّا ثلة متفاوتة، ولكن نعتبر جيلا واحدا، ومنهم المرحوم أحمد سليمان ضو البيت وعبد الرحمن أحمد وعلم الدين حامد وعمر الجزلي وعبد الوهاب أحمد محمد صالح رحمه الله، وكذلك كمال محمد الطيب، ونحن كلنا كنا جيلا واحدا تفرق بيننا شهور قليلة. ٭ ما أكثر البرامج التي تشدّك وهي لغيرك؟ - كثيرة، ومن أشهرها برنامج أستاذنا الراحل أحمد الزبير «أشكال وألوان» وهو المدرسة الأولى لبرامج المنوعات، وقد وضع أسس برامج المنوعات ومن بعده الناس اقتفت أثره على هذه الأسس. ٭ ماذا عن تجربتك الشخصية مع بعض الفنانين الذين تغنوا بأشعارك، ومن هو أول من صدح بقصيدة لك وغيرت مجرى حياته الفنية؟ -الحقيقة الكثير من الفنانين تغنوا بكلماتي، وفي مناسبات عدة، وبعد ذلك لي علاقات حميمة معهم، إذ كنت أترك الإذاعة جانبا وأتعامل مع الفنان باعتباره إنساناً وصديقاً، وأنشئ معه صداقة لا ارتباط لها بالإذاعة البتة. وأنا أقوم بإعداد كتاب جمعت فيه أشتات علاقات وتجارب ولقاءات ليس لأتحدث عن خبرتي فحسب، ولكن لتكون بعض المحطات التي وقفت عندها خلال السنوات الطويلة التي عشتها بين حنايا أمّي الرؤوم الإذاعة وفي حوشها الفسيح بذكرياته وأشواقه مع الفنانين ومع شخصيات أخرى مهمة في حياتنا وفي حياة أي سوداني، حيث تحدثت فيه عن «65» شخصية منهم فنانون وشعراء وكتاب ومفكرون وسياسيون وأدباء وعلماء.. إلخ من داخل وخارج السودان، بما في ذلك مصريون، وسميته «ذكريات حيّة». وكان من المفترض أن يطبع هذا الكتاب لأشارك به ضمن مهرجان الخرطوم عاصمة الثقافة العربية عام 2005م. والمهرجان فشل في تقديم الفعاليات الثقافية كلها، والكتب التي طبعت لهذه المناسبة كانت ضعيفة ودون المستوى، فقط عبارة عن لافتات، وطال ذلك حتى المسارح، برغم أنه تمت تهيئتها لتقديم مسرحيات كبيرة وهادفة. وحقيقة كان المهرجان مخيباً للآمال، وقد أجمع كل الإعلام المقروء على ذلك وهاجمها بعنف، ولكن لا حياة لمن تنادي. أعود فأقول إنه قد تغنى لي عدد كبير من الفنانين الكبار، حيث تغنى لي شرحبيل أحمد أول أغنية جاز في السودان وهي أغنية «حلوة العينين» وهي التي غيرت مجرى حياة هذا الفنان العملاق من الغناء الوتري إلى غناء الجاز، وهي أول أغنية بهذا الشكل في السودان. ومن أعمدة خلاصة الفن السوداني الذين تغنوا لي أيضا عبد العزيز محمد داؤود وصلاح ابن البادية وأحمد الجابري الذي تغنى لي آخر أغنياته التي اختتم بها حياته وهي «مرسال الشوق» وهي أغنية عاطفية، كما غنى لي إبراهيم اللحو وعبد الدافع عثمان وحمد البابلي في أغنية «يا أمّي». ٭ كان قد تم اعتقالك مع الفنان محمد وردي والشاعر القامة محجوب شريف والفنان الكبير محمد الأمين.. ما قصة هذا الاعتقال وما الظروف التي اكتنفته؟ - كان ذلك إبَّان حركة يوليو 1971م «حركة هاشم العطا» بسبب ندوة إذاعية كنت قد نظمتها، واستضفت فيها كلاً من الفنانين محمد وردي ومحمد الأمين والشاعر محجوب شريف، وكنا نتناول فيها بعض القصائد، منها ما هو عاطفي ومنها ما هو وطني ومنها ما هو حماسي، وفور عودة الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري إلى سدة الحكم بعد الانقلاب مباشرة، فوجئنا بأمر حبسنا، ومن ثم اعتقال أربعتنا بسجن كوبر. وهناك جمعتنا ظروف السجن بمرارتها والتي لا تتكرر خارجه، وعشنا فيه أصعب وأمرّ أيام حياتنا، حيث دام سجني لسنتين ووردي سنتين ونصف السنة، ولكن آلينا على أنفسنا أن نكسر قسوة وحدة السجن بالأغاني. وأذكر في هذه المناسبة أن الأغنية الجميلة «طرح الدين» للشاعر التيجاني سعيد لحنّها وردي داخل السجن، أما أنا فكنت أعدّ وأقدم برنامج «صباح الخير يا وطني» من داخل السجن أيضا. وعندما خرجت من السجن قدمته في الإذاعة. وكنت داخل السجن أقدم ذلك البرنامج للمساجين الذين يفوق عددهم الخمسة آلاف سجين على الهواء، كما قمت بإخراج مسرحيات، منها مسرحية للبروفيسور محجوب الحارث، وقد استمر عرضها لأكثر من ساعتين، وكنّا نستعين بالفنانين التشكيليين من المساجين، وقد ساعدونا في عرضها وفي تصميم الملابس وديكور المسرح من الفحم والطين، ودعونا لها كل المساجين. كما لا أنسى أنني كتبت أغنية أحمد الجابري الصغيرة، فيما كتب محجوب شريف الكثير من أغانيه هناك. كما كانت هناك دروس في اللغة العربية للمبتدئين والمتقدمين، وكذلك الحال في اللغات الأخرى كالإنجليزية والفرنسية والألمانية والروسية وغيرها من اللغات، حيث كان الفحم هو طباشير الكتابة والجدران والحوائط هي السبورة. وفعلاً كان في السجن نشاط ثقافي وتعليمي كبير، حيث يقوم كل واحد بتقديم ما يجيده حسب مجاله وتخصصه، ولا ننسى أننا أسسنا أندية رياضية، وكانت كل مجموعة تمثل ناديا في صنوف الرياضة، بما في ذلك كرة القدم والطائرة والسلة وألعاب القوى، وكان هناك دوري يُقام وله مشجعون كثر. ٭ هل قيامكم بمثل هذا النشاط الكبير داخل سجن كوبر كان نتيجة لحسّكم الوطني، أم مجرد تسلية لإطفاء نار الاعتقال والكبت؟ - كان لا بد من القيام بذلك لكسر حدة السجن وحاجز الخوف والرهبة من المجهول. ولكن بكل صدق كان السجن مع مرارته فرصة حقيقية لممارسة شيء من الحرية التي كنا نفتقدها في الخارج، فكنا نعبر عن أفكارنا وآرائنا بلا تحفظ حتى ضد السلطة، وبشكل لو عبرنا به بالخارج لكان مصيرنا السجن أيضا بدون خطوط حمراء، ولذلك تمتعنا بحرية كاملة داخل السجن رغم قسوة السجن وظروفه السيئة، حيث كنا نفترش الأرض، والكثير من المساجين أصيبوا بأمراض كثيرة. ومع كل ذلك كان فرصة حقيقية للالتقاء مع صفوة من صفوة الناس، ومنهم السياسيون والمفكرون والأدباء والمثقفون والعلماء والأطباء والمحامون والشعراء والفنانون، ومن الأسماء اللامعة في المجتمع السوداني. ٭ بتقديرك ما سمات الإعلامي الناجح؟ - أهم ما يميز الإعلامي الناجح أن يكون لصيقا بيئته وغائصا في أعماق وهموم الناس وأشواقهم وطموحاتهم وتطلعاتهم ليخدم شعبه ووطنه، فالإعلام عرق وتعب وطموح، فالذي لا يبذل كل ذلك لن يكون إعلامياً ناجحاً. ٭ ما هي مشكلات الإعلام السوداني تحديدا؟ - اعتقد أن مشكلات الإعلام السوداني تتلخص في ضعف الإمكانيات الفنية سواء أكان ذلك في الإعلام المشاهد أو المسموع أو المقروء، إذ أن الإمكانيات الفنية الإعلامية هي أهم دعامات نجاح الإعلام، بالإضافة إلى ضعف الوضع الاقتصادي الذي يعيشه الإعلامي. وإذا تمت معالجة هذين العاملين سنخلق إعلاماً متقدماً ومتطوراً وخلاَّقاً في ظل وجود كودار وخبرات إعلاميَّة نعتز بها، ويمكننا الاستفادة منها في تأهيل الجيل الصاعد من الإعلاميين.