لعل الجميع قد توصلوا إلى قناعة أن كافة أزمات الوطن السياسية بدءً من أزمة دارفور وتداعيات الانتخابات وتحديات الاستفتاء يكمن مفتاح حلها في وفاق جماعي محوره الحد الأدنى من تراضي كافة القوى السياسية وكل مكونات الشعب. لكن كيف السبيل إلى هذا الإصطفاف الشعبي والتراضي السياسي وتسعون بالمائة أو أكثر من أبناء هذا الشعب وقواه الفاعلة مطحونون ما بين سندان الكساد ومطرقة الفقر؟ كيف يتأتى للبطون الخاوية والأجساد المتعبة السقيمة أن تستوعب هذا الوفاق وتصطف فيه؟ الناس باتت لا تسمع ولا ترى ولا تقرأ.. فقط يسمعون صوت امعائهم الجوعى، فقط يرون هوان عيشهم بالنهار وذلّ همهم بالليل، فقط يقرأون وجوه أطفالهم وأحبائهم الشاحبة بسبب العوذ والفقر. لقد إجتر الناس الحشف في موائدهم.. واليوم وبسبب الكساد زادهم رهقاً سوء الكيل. نعم هو الحشف وسوء الكيل معاً، فجيوب الناس ما فيها سوى صلصلة العملات المعدنية التي لا تقيم أوداً ولا تشتري جرعة دواء. والمتاجر في حالة كساد تام تتشهى زبوناً واحداً يتصدق على أصحابها بالشراء. والناس.. جميع الناس تلهب ظهورهم سياط الفواتير.. فواتير الكهرباء والمياه والمدارس والجامعات والمواصلات والنفايات و(قفة) الملاح المتواضعة، حتى الشحاذون كسدت وبارت تجارتهم وأصبح المتصدق والسائل في الهم سواء. إن أزمة السودان الكبرى التي تحتوي في ثناياها كافة الأزمات السياسية الأخرى هي الأزمة الاقتصادية. هي هذا الكساد الساحق والفقر المتلاحق. كساد وفقر يتساوى فيه أبناء دارفور مع أبناء الوطن كله، شرقه وشماله وجنوبه ووسطه. كساد وفقر كسر الحواجز الجهوية والقبلية والإثنية ولم يوفر أحداً من ضرباته. إذا أردنا أن نخرج من كافة أزماتنا السياسية فلنجعل من الهم الاقتصادي أول تحدياتنا وهمومنا، فهذه العقدة الاقتصادية المحكمة بين ثناياها المتشابكة كل الخيوط.. خيوط دارفور وتداعيات الانتخابات ومستقبل الوطن ووحدته. توحيد الجبهة الداخلية وهي دوماً السند والعضد يكون بتوفير لقمة كريمة لكل جائع وجرعة الدواء للسقيم وجلاء الكرب والهم من هذه النفوس المتعبة والقانطة. صحيح أن الأزمة المالية العالمية وإنخفاض الموارد المالية البترولية وترهل الاجهزة التنفيذية والادارية وإهمال صادراتنا التقليدية والسفه فى الانفاق الحكومى له يد في ما نحن فيه، لكن يبقى من الأوجب على الحكومة والمعارضة المدنية والحركات المسلحة أن تدرك هذه الحقيقة، فما جدوى التنازع والتجاذب في كل عواصم الدنيا على السلطة والثروة بينما الشعب يتضور جوعاً؟!