مقولة أن معظم السودانيين باتوا يعيشون (رزق اليوم باليوم).. هذه المقولة على ما فيها من كفاف وتقتير لم تعد تعبر عن واقع الناس المعيشي المتدهور، والأصح أن نقول إنهم (يعيشون رزق اليوم على الغد) فكل الشقاء الذي يعانوه حلوله معلّقة على غدٍ يحتمل الجدب والضيق أكثر مما يحتمل الإثمار والفرج. الناس في هذه الأيام يستدينون أماني وآمال خلاصهم من رحم الغد المجهول، ويستدينون في ذات الوقت من صاحب الدكان ومن بائع اللبن وصاحب الخضار وبائع اللحم ويماطلون (سيد البيت) ويستعطفون الطبيب والصيدلى ويفزعون من مصاريف المدارس والجامعات، هذا بإفتراض أنهم لم يشطبوا ترف اللحم واللبن والطماطم من فواتير المعيشة. الجهة الوحيدة التي لا يجرأون على الإستدانة منها هي الحكومة، فغاية آمالهم وضراعتهم إلى الله مجرد أن تتركهم الحكومة ما تركوها وأن تخفف عليهم رهق فواتيرها من مياه وكهرباء ونفايات وعوائد ورخص تجارية وضرائب وزكاة وقرارات تتنزل كالصواعق على رؤوس المقهورين ، بالإضافة الى إعالة جيوش الدستوريين من أعضائها. والأسواق في هذه الأيام تشهد غلاءً ساحقاً إفترس الناس إفتراساً، هذا الغلاء كان بالإمكان تجاهله لو إنحصر في الجبن الموزريلا وصباعات ال(هوت دوغ) ومعلبات (المشروم) وسمك الهامور القادم من شطئان بحرية بعيدة ، وفي فواكه مثل (الكيوي) الشيلي والتفاح الجنوب أفريقي والنبق الفارسي، هذه الأسماء كلها طلاسم لا يُعني غالبية الناس بمعرفتها أو تذوقها، لكن المشكلة أن موجة الغلاء هذه إكتسحت إحتياجات بسطاء الناس الأساسية والمتواضعة مثل جرعات الأدوية ورطل السكر ورطل الزيت والبصل والرغيف ومكعبات المرق (مرق الفقراء الكاذب) والفول والعدس وحتى الخضروات مثل البطاطس والبامية...الخ التي فاقت أسعارها بعض أسعار الفواكه المستوردة. تخطئ الحكومة حينما تنشغل بتداعيات حروبها وبموائد تفاوضها فى دول الجوار وتتجاهل هذه الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي فتكت بمعائش الناس حتى أوصلتها إلى ما دون الصفر، فكل هذه الأزمات والحروب التي تنشغل بها الحكومة هي في جوهرها أزمات اقتصادية ومالية وبالتالي لا يكون علاجها إلا بالإلتفات إلى الهم الاقتصادي وإلى الإمعاء الجوعى والجيوب الخاوية التي يكتوي بسعيرها كل أبناء السودان شماله وجنوبه الجديد.. شرقه ووسطه وغربه ، وليت الحكومة إكتفت بالتجاهل فقط ولكنها تطفىء نيران الغلاء بصب البنزين على تلك النيران حين تبشرنا عبر وزير المالية برفع سعر المحروقات وتحرير أسعارها مع زيادة الضرائب والجمارك والإتصالات وغاز الطائرات ورسوم السفر والتذاكر ، والغريب أن الوزير يبرر هذه القرارات المرتقبة بأنها السبيل الوحيد لخروج الناس من المعاناة ، تماماً كمن يقدم جرعة إضافية من السُم لمريض شبع موتاً . يقول هاشم صديق في إحدى قصائده: هديمك يا وليد مقدود وصابحنا الفَقُر والجوع صبِح باب التُكل مسدود.. كِمل حتى الملح في البيت وشٍن هَمّ الملح في البيت وكت ملح الدموع موجود؟!