استضاف نادي القصة السوداني بالمجلس القومي لرعاية الثقافة والفنون بروفيسور عبد الله حمدنا الله، الذي تحدث عن تجربته الحياتية والمشهد الثقافي الذي عاصره.. وقدم الأمسية الاستاذ عاصم الصويم الذي قدم البروف قائلا عنه: انه استاذ بجامعة افريقيا، متخصص في الادب العربي وهو كاتب وباحث، له اكتشاف هو صحيفة في المهدية صدرت قبل معركة كرري ب 45 يوما، والآن يعد للنشر مواد الصحيفة ومذكرات صاحبها محمود الكناني التي نشرت في حضارة السودان في منتصف الثلاثينيات. تم تحدث البروفيسور قائلا: اذا تحدثت عن المشهد الثقافي الذي عاصرته فإن اسهامي فيه اسهام متواضع، ذلك لأن اخصب اسهاماتي كانت خارج السودان في دولتي مصر وتشاد، وقد كانت من انضر السنوات التي قضيتها، وسأتحدث عن بعض ملامحها، وسأبدأ بالمؤتمرات العامة التي أثرت في جيلي في المنطقة وعن المؤتمرات العامة التي اثرت في جيلي في المركز هنا، حينما اتيت الى الخرطوم قبل منتصف الستينيات، واعتقد انها مؤتمرات نجد ملامحها وبصماتها في كل افراد جيلي.. والمنطقة التي نشأت فيها وهي شمال الجزيرة، نحن نقول دائما ان بها اول من حضر دكتوراة في السودان دكتور مكي شبيكة، ومنها اول شخص درس بعد الثانوي اربع سنوات وهو الشيخ عبدالله الترابي الذي تخرج في معهد امدرمان العلمي في اول دفعة عام 1924م، ومنها ايضا اول مفكر سوداني غير تقليدي الامين علي مدني مؤلف «أعراس ومآتم» وانا من نفس اسرته، فجدتي طيبة بت أحمد ود حاج مدني شقيقة الامين علي مدني، فهذه المنطقة بهذا النحو لا بد ان تكون منطقة وعي، وقد ساعد على هذا انه في منتصف الاربعينيات كان مشروع الجزيرة مازال فتيا لم يكمل «20» عاما بعد، وكانت الخدمات الاجتماعية في مشروع الجزيرة التي تأسست بين المشروع والمزارعين بنسبة 5% هي التي عمرت كثيراً من مناشط التعليم والصحة والاندية في مشروع الجزيرة، ثم أن المجالس المحلية كانت ذات دخل محترم، ولذلك كانت تؤسس مدارسها اضافة الى المدارس التي تؤسسها وزارة المعارف حينئذٍ ما كان يسمى بالمدارس الصغرى، ومن ثم فإن نمط التعليم كان يؤسس على ثلاثة انواع: المدارس الاولية وهي التي تنشئها وزارة التربية والتعليم، والمجالس الصغرى وهي التي تؤسسها المجالس، ثم المدارس ذات الرأسين التي يمتحن فيها طلاب المدارس الصغرى، وكانت هي المدارس الاقوى، وهذا النمط من التعليم نعتقد انه اشاع قدرا من الوعي. ومن حسن حظي ان المدرسة انشئت في قريتي في تاريخ ميلادي 1948م، ولا بد من الاشارة ايضا الى ان النمط التعليمي الذي كان سائدا كان نمطا محترما ليس من خلال المناهج الدراسية فحسب، بل من خلال الانشطة اللا صفية ايضا، ذلك ان القراءة كانت خصبة. ولعل الذين هم من جيلي والذين هم اكبر مني يذكرون الكتب التي كانت في ذلك الوقت، كتب سودانية من مكتب النشر الذي كان يصدر كتباً بكثافة، ومازلت اذكر منها «أحلام ظلوط» و«السراب وحمامة» بالاضافة الى مجلة الصبيان، ثم الكتب التي كانت تأتينا من مصر، وأشهر الكتاب كانوا ثلاثة في ذلك الوقت، وقرأنا لهم ونحن في المرحلة الاولية: محمد عطية الابراشي وكامل كيلاني ومحمد أحمد برانق. ولعل ما يثير العجب والدهشة اننا قرأنا لهم ونحن من المرحلة الاولية، اضافة الى قصص شكسبير بعد صياغتها على مستوى يناسب أعمارنا. وتعود بي الذاكرة للاناشيد التي كانت تقدم، فلم نكن نعي باتجاهاتها لكن فيما بعد استطاع الانسان ان يعي بهذه الاتجاهات. واعتقد انها كانت تنمي فينا حب الاطلاع على احدث الافكار الادبية واعرقها في ذات الوقت. ولا بد أن اشير هنا الى بعض القصائد التي مازالت عالقة بذهني، مثل قصيدة الحادي للمصطفى الرافعي: هلا هلا هيَّا ٭٭ أطوي الفلا طيا وقرب الحية ٭٭ من نازح الصدى وقصيدة أخرى لسيد قطب تقول: ألا ما أجمل الوادي ٭٭ قد اخضرت مراعيه ومر به نسيم الصبح ٭٭ في الفجر يحييه فهاتان القصيدتان تمثلان نمطين مختلفين جدا في الاتجاهات الادبية في ذلك الوقت، ذلك ان قصيدة الرافعي «الحادي» من الاتجاه المحافظ الذي اختطه البارودي وسار عليه شوقي وحافظ وعلي الجارم وغيرهم، اما قصيدة «الوادي» فواضح جدا فيها الطبيعة التي اختطها اولا جماعة الديوان ثم جماعة ابولو، ولذلك هذه اتجاهات ادبية مختلفة كنا نتعامل معها دون ان نعي ذلك، لكنها بالقطع قد استقرت في الذاكرة، واصبحت من المخزونات التي انارت لنا الطريق فيما بعد، واعتقد أن معظم المناهج قد صيغت على نحو ادبي. ويمكن ان اشير الى شاهدين، الشاهد الاول شاهد معروف في الجغرافيا، «سبل كسب العيش في السودان»، وكانت تصحبه قصيدة مشهورة: في القولد التقيت بالصديق أنعم به من فاضل صديق والدليل أن انفعالنا بمثل هذه الأشياء وحفظها قد استقر في وجداننا، بحيث أنني لم أعد لهذه القصيدة قبل اكثر من «50» عاما، لكنها كانت من القوة في جيلي كله، فيما اعتقد شاهد آخر أن التاريخ كان يمثل من خلال المسرحيات، فمسرحية «الأبيض» من المسرحيات التي كانت تجذبنا كثيرا، ولذلك المواد العلمية نفسها كانت محترمة وتستقر في الاذهان وكانت توضع في سياق ادبي من خلال القصيدة والمسرحية، وقد حبب لنا ذلك الادب بأجناسه المختلفة، كذلك لا بد ان اشير الى انني تلقيت نمطا من التعليم كان مختلفا جدا عن النمط السائد، واعتقد ان دفعات قليلة محدودة كانت تحب هذا النمط من التعليم، ذلك لأنه يجمع بين الثقافة والتقليدية والثقافة الحديثة. وبعد أن قبلت في المدرسة الوسطى «بكاب الجداد» اصرَّ خالي الشيخ محمد حامد التكينة على ألا اذهب لأنه أسس معهدا علميا، فكان لا بد أن آتي اليه انا وابنه عبد الحميد، ذهبت فاخذت الجلاس ومتن الاجرومية ومتن العشماوية والبكشرز وكتاب امان آند أبان، ووايت نايل والرياضيات. وكنا نقرأ الثقافة العربية الإسلامية من مظانها الاصلية، وفي ذات الوقت نقرأ الثقافة الحديثة. وفي الصف الثاني والثالث والرابع درسنا «قطر الندى وبل الصدى» وقرأنا رسالة ابن ابي زيد القيرواني. واذكر اول قصيدة درسناها في الثانوية كانت قصيدة عنترة: حكم سيوفك في رقاب العزل إذا مررت بدار ذل فأرجل وإذا بليت بظالم كن ظالما وإذا لقيت ذوي الجهالة فاجهل والمرحلة المتوسطة كانت موجودة، لذلك هذا النمط استمر معنا حتى المرحلة الثانوية التي درسنا بها الفية ابن مالك بشرح ابن عقيل، وامتحنت الشهادة الثانوية واحرزت الدرجة الثانية، وقبلت بمعهد المعلمين العالي، ولكني تحولت بعد ذلك الى جامعة امدرمان الاسلامية، فنمط التعليم الذي تلقيته كون عندي قناعة بأن أكثر المؤثرين في ثقافتنا هم الذين يمتلكون الثقافة العربية الإسلامية في مظانها الأصيلة، ويمتلكون الثقافة الحديثة.. فالذي يمتلك الثقافة الحديثة دون أن يمتلك الثقافة العربية يظل تكوينه ناقصا، والذي يمتلك الثقافة العربية دون الحديثة سيظل تكوينه اكثر نقصا، ولذلك اذا نظرنا الى طه حسين والعقاد وعبد الله الطيب في السودان والامثلة كثيرة، أكثر المؤثرين حقيقة هم الذين ضربوا بسهم واحد في الاتجاهين، وما تزال هذه هي قناعتي. ولذلك كنت آخذ على بعض الكتاب السودانيين اما انهم لم يضربوا بسهم هنا او بسهم هناك، لكن تعودنا على الاحكام الكلية دون أن نتبين التفاصيل الدقيقة. وعقدت مقارنة بين الطيب صالح ومعاوية نور ومحمد عشري الصديق، فمعاوية وعشري تعجب بهما ايما اعجاب في اطلاعهم على الثقافة الغربية من خلال ما تخرجه المطبعة الانجليزية، فعشري الذي ظلمناه جدا ما زلت اعتقد انه هو احد افضل النقاد السودانيين الى زمان الناس هذا، لكننا ظلمناه، ولا شك في انهما اطلعا، لكن كل من معاوية وعشري لا تلمس لهما اي اطلاع على الثقافة العربية، وكل ما اتصلوا به هو الادب العربي الحديث، خاصة جماعة الديوان وخاصة العقاد، ومعاوية كان معجباً بالعقاد وانحاز اليه في معاركه، الامر الذي جعل بعض النقاد السودانيين يفهمون خطأ أن معاوية حينما ينتقد ابراهيم ناجي بقسوة فهو ضد الاتجاه الرومانسي في الادب الحديث، وهذا ليس بصحيح، وليت ذلك كان حقيقة ان معاوية قد انحاز، فالذي كان سيئ الظن جدا بأبولو وحاربها حرباً شديدة جدا هو عشري، فقصيدة «ترجمة شيطان العقاد»، هي افضل قصيدة في كل جيل، لكن بين ذلك لا نجد لهما اطلاعا، على خلاف الطيب صالح الذي قرأ في الادب الغربي وقرأ في الادب العربي، لكن ذوقه ظل عربيا خالصا كأنه لم يقرأ حرفا في الثقافة الغربية، والشاهد ان كل هؤلاء كانوا مؤثرين، وكان يمكن أن يكون تأثير معاوية وعشري اكثر اذا جمعا بين الثقافتين بمستوى واحد او متقارب. وعندما كنت في الوسطى كانت المؤثرات اقليمية، فالبيت الذي نشأت فيه واحداً من البيوت الدينية، ولكن والدتي كان خالها عبد الرحيم افندى مجذوب قد تعلم تعليما مدنيا في اولى سنوات التعليم، وكان مطلعا جدا على الصحف، وكنت اختلسها منه.. وهو قد تأثر جدا بعمه الامين علي مدني، بالإضافة الى ان والدي وعمي نشآ في بري المحس وهي منطقة وعي أيضا.