بعد أن جئنا الخرطوم عام 1963 دخلت التأثير العام، واستطيع أن أقول اني شاهد معاصر جداً، وبعد ذلك مشارك في المشهد الثقافي السوداني، أتيت إلى أم درمان، وأم درمان يومئذٍ كانت المناشط الثقافية أهمها كانت الندوة الأدبية في حي البوستة واعتقد اننا ما زلنا نحتاج إلى نماذج أو روابط وجمعيات كالندوة الأدبية، القول الأساس المشكل للندوة الأدبية هو اليسار ولكنها كانت مفتوحة بحرية لكل الناس كل ألوان الطيف يقبلون على هذه الندوة، لم أكن متردداً عليها بكثرة وكنت التزم الصمت وكنت أجلس مندهشاً مع انني أمام هؤلاء ولكنني كنت معجباً جداً بدرجة الحرية وتقبل الآخر في هذه الندوة ومازلت اعتقد حتى الآن ان السياسة ينبغي أن تقف عند الباب في أية رابطة أو تجمع أدبي، ينبغي أن يحكمها المشهد الثقافي نفسه، لأنك في الثقافة يمكن أن تختلف، في الاربعينيات والخمسينيات الناس باتجاهاتهم المختلفة سواء أكانت رومانسية أو واقعية اذا نظرنا إليها من حيث الأجيال نجد جيلاً جديداً له مفهومه المختلف في الأدب في معرفة كبيرة جداً نحن لم نحسها بين شعراء كلية غردون وشعراء المعهد العلمي، شعراء المعهد العلمي أثر فيهم حسين منصور «الشاطئ الصخري» والتجاني يوسف بشير، الشاعران في الجانبين قوميان، والظاهرة المحيرة في تاريخ الأدب الشعبي السوداني على وجه الخصوص لم نقف عليها هي ان حركات التجديد في الشعر السوداني قام بها أصحاب الثقافة العربية الاسلامية وهذا خلاف منطق التاريخ، الذين يكتسبون ثقافة حديثة على ثقافة أخرى أو يفتحوا نافذة على ثقافة أخرى هم دائماً رواد التجديد لكن عندنا في السودان الظاهرة المحيرة التي لم نقف عندها ان أصحاب الثقافة العربية الاسلامية هم رواد التجديد الأدبي في السودان، الانتقال من طور التقليدي الضعيف إلى نمط التقليد على طريقة البارودي وابرز شعرائه ثلاثة: العباسي والبنا وعبد الله عبد الرحمن، الانتقال من النمط التقليدي إلى نمط المتأثر بالمسحة الرومانسية أبرز شعرائه التجاني يوسف بشير والانتقال إلى قصيدة التفعيلة أبرز شعرائه الفيتوري، فارس، جيلي عبد الرحمن، تاج السر الحسن وهذا يوضح ان السودانيين منفتحون على الثقافات، السودانيون ليسوا أسرى للقوالب ولذلك نحن في حاجة إلى نظرة نافذة لثقافتنا لأنني أعتقد اننا تلقيناها واعتقدنا في كثير من المقولات ولم نمتحنها امتحاناً حقيقياً، المعركة بين شعراء المعهد وكان يحرضهم على ذلك حسين منصور، ديوان الشاطئ الصخري فيه بعض القصائد لا تفهم إلا بعد أن يشرحها طلاب حسين منصور لأن فيها هجاء لاذع وأحياناً هجاء سفيه لطلاب الكلية ومن حسن الحظ اننا قد جلسنا إلى بعض هؤلاء الطلاب وأناروا لنا كثيراً من هذه القصائد ومن حسن الحظ ايضاً انني صادقت حسين منصور حوالي عامين في مصر، لا بد أن أقول ان جيل الستينيات بما فيه من وسائط ثقافية بما فيهم من ظهور جيل جديد وبما فيه من خفوت بين ما كان سائداً ما بين شعراء المعهد وشعراء الكلية، هذه أدت لظهور هذا الجيل الجديد وشابو أحد أولئك الجيل الذي بهرنا حقيقة هو أولئك الاساتذة الذين استقدمتهم الجامعة الاسلامية من مصر والعالم العربي وهذا ما جعلني انتقل من المعهد إلى جامعة أم درمان الاسلامية لهذا السبب ولسبب آخر هو ان المعهد ينتهي بدبلوم، كان ممتعاً جداً ونستمتع عندما نسمع علي عبد الواحد وعز الدين اسماعيل، عبد اللطيف حمزة، أحمد النجار، أبو زهرة، عائشة بت الشاطئ، د. مصطفى حواره، عبده بدوي وهو أستاذي وأحترمه جداً، لكن اعتقد ان الذي وجدناه عنده لا يعادل اسمه، ربما كان شاعراً أكثر منه باحثاً، وهواره ربما كان حافظاً لكثير من الاشياء لكن المؤثر حقيقة فينا في الأدب هو عز الدين اسماعيل لأن عز الدين ناقد، وهؤلاء مؤرخو أدب، عبد المجيد عابدين أصيل في بحوثه لأن كتاباته عن الادب السوداني كتابات أصيلة واعتقد انه من أهم الذين ارتادوا هذا المجال بمنهجية. بدأت كتاباتي ومشاركاتي بعد تخرجي في الجامعة في الملحق الثقافي الاسبوعي لصحيفة الصحافة وفي كثير من الاحيان كان مقالي يأتي في الصفحة الاولى كمقال رئيسي، حاولت أن أقوم بدراسات نقدية لبعض الشعراء الذين كانوا يملأون الساحة حينئذ، ربما لا يكون من المناسب الآن ان اتحدث عن بعض الذين انتقدتهم ومازال رأي فيهم هو لم يتغير. بدأت المشاركات في المحاضرات من هذا المجلس حيث كانت تقام ندوات اسبوعية وكنت احضر وكانت لي بعض المداخلات ولكني لم أكن معروفاً وربما لا يتذكرني أحد وأهم هذه الجماعات والتي ظلت في ذاكرتي جماعة الكرستالية، اختلفت وربما بحدة في هذا المكان مع الأديب الكبير مصطفى عوض الله بشارة في رؤيته حول الطيب صالح من السبعينيات، عندما بدأت أعرف جاءتني بعثة إلى القاهرة عام 1977 للماجستير وواصلت الدكتوراة، في القاهرة سأتحدث عن جانبين، الجانب الاول الندوات التي كانت تقام «الندوات الخاصة» وهي أصلاً نشأت في المرحلة الكلاسيكية في الصالونات وأشهر هذه الأسر الأسرة الاباظية لكنها بعد ذلك انتقلت إلى منازل الأدباء أنفسهم وكنت مشاركاً بصورة معقولة في ثلاث ندوات، ندوة العقاد التي كان يقيمها تلامذته بعد وفاته، ندوة محمود محمد شاكر واعتبره امام العربية بلا منازع وندوة زكي نجيب محمود، هذا إلى جانب رابطة الأدب الحديث، نادي القصة ودار الأدب في القصر العيني ولأول مرة شاهدت فيها الأديب أمل دنقل وقد عرفني به صديقي محمود عكير وقد كنت في ذات الوقت أكتب في مجلة الوادي التي كانت فيها عدد من المقالات، وقد كتبت في عدد وحيد أصدرته رابطة المبعوثين السودانيين أشرف عليه اسماعيل الفحيل، كتب مقالاً عن محمد أحمد محجوب جوانب من حياته وشعره. الجانب الثاني جانب السودانيين فقد انعقدت لي علاقات بين كثير منهم من أمثال الشاعر حسين منصور والذي قد سجنه جمال عبد الناصر وكان عمره آنذاك 67 سنة لأنه كتب قصيدة صادرتها المخابرات المصرية كان يقول في مطلعها الذي حفظته: دعونا من محاكمكم دعونا فقد هزلت وأنتم تحكمونا دعونا من مهازلكم ويكفى خراب جره ما تهزلونا توسط له الأزهري وغيره ولم يخرج من السجن ولكنه بعد ان خرج كتب قصائد سماها القوارع كلها هجاء في جمال عبد الناصر أقلها قارعة فيها 500 بيت. فقد كان حسين منصور ثائراً منذ بداية حياته إلى مماته.