ليست البورصات وحدها التي تفلس ولكن العباقرة والحكماء واصحاب الفكر قد يصيبهم احيانا افلاس وركود بضائعهم التي كانت قد عرضت من قبل ، ولا يبقى لديهم الا تجديدها في شكلها وليس مضمونها الذي يستحيل ان يتغيرجذريا مهما اجتهد اصحابها ! أثار تعليق الاستاذ هيكل قبل اسابيع في برنامجه التلفزيوني الاشهر في قناة الجزيرة (تجربة حياة)حول استشهاد الامام الهادي المهدي،أثار جدلا مطولاً على المستوى الاعلامي رغم ان حجم المداخلة في هذه الجزئية لم يكن بالامر الذي يستدعي حجم ردود الافعال حولها،خاصة في الاوساط السودانية الذين يعرفون تماما وقائع تاريخهم الحديث والذي لا يختلفون حول حيثياته،ولكنه هيكل وما ادراك ما هيكل !! عموما لابد من وضع الاشياء في حجمها الطبيعي دون افراط.فالحادثة التي تحدث عنها الاستاذ هيكل والتي اثارت حفيظة كثير من السودانيين هي في حد ذاتها امر غير ذي اهمية .....مجرد معلومة خاطئة تحدث كثيرا ..لكنها اكتسبت اهميتها كونها وردت على لسان هيكل ان الامام الهادي مات مسموماً بثمرة المناجو (السودانية وليس المصرية كما شدد هو في حديثه) او قتل غيلة رميا بالرصاص بدم بارد من قبل عساكر وضباط حدود يبحثون عن شهرة،او لا يعرفون ويقدرون ما هم فاعلون،كلها تفاصيل لا تهم كثيرا امام الحقيقة الاساسية وهي ان الامام الهادي المهدي مات شهيداً على ارض السودان وهو يسعى في جهاده ضد هؤلاء الذين سطوا بليل على السلطة الشرعية في البلاد.نعم العبرة هي ان الامام الهادي اختار المواجهة وليس الجلوس على اريكة مخملية في الخرطوم فى الاول من يونيو1969 لكتابة سفر التأييد لانقلاب مايو العسكري ،أي بعد اقل من اسبوع من استيلاء الانقلابيين على السلطة.ولو كان الحديث عن تحليلات استخباراتية واستنتاجات مبنيه على معلومات فانه من الجائز ايضا الحديث عن نظرية تشكلت حيثياتها بصورة اقرب للواقع والاستنتاج المنطقي لقراءة احداث التاريخ ومحركاته آنذاك،تقول بان الرئيس الازهري اغتيل طبياً اذا جاز هذا المصطلح الفني أي ان اهمالا متعمدا وبتوجيهات عليا تم تحريكه لضمان عدم رجوع الزعيم الوطني الى ساحة المعارضة حتى ولو كانت من داخل سجن (كوبر)! وحيال كل هذه الترهات او الحقائق والادلة المادية يبقى ايمان الناس في السودان بأن( قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا) ونقول للاستاذ هيكل القضية ليست في ان الامام الهادي المهدي مات مسموما بتناوله سلة مانجو سودانية قدمت له في ( كسلا )او انه مات نتيجة طلقة بندقية اصابته في فخذه وهو يعبر الحدود السودانية الاريترية بعد قيادته لمعارك غير متكافئة بين انصاره العزل الا من ايمانهم بالدفاع عن شرعية الحكم في البلاد وبين طائرات او مدافع وراجمات استعملها الانقلاب العسكري ضدهم بغرض الابادة وارسال اشارات تحذيرية الى الشعب السوداني عامة وقياداته الوطنية خاصة. هذا ليس هو بيت القصيد هنا فالتاريخ لا يغزل نسيجه على الا من جدائل الحقائق حتى وان غابت او غّيبت لحين.والسؤال هو لماذا تصدر مثل هذه الحواشي في سياق حديث رجل في قامة هيكل ..!!!هيكل المفكر والباحث ورائد علم المعلوماتيه والتوثيق في الشرق الاوسط كله وليس فقط عبر انشائه مركزا للدراسات الاستراتيجية بالاهرام.ولعل اهمية أي حديث حتى وان كان مغلوطا،تبقى في واقع صدوره عن هيكل نفسه الذي يعتبر بحق عنقاء الصحافة العربية،لا يلبث الا ان يتقدم ويتقدم نحو شمس الحقيقة حتى يكاد يلامسها فيحترق ليبعث مجدداً من رماده،ولكن البعض وانا منهم،يرون ان الاكثار المخّل يحدث التخمة والتي هي في حالة تعاطى الثقافة تصبح افلاسا يجتر ذات المعاني والمفردات والحيثيات بمحاولة اعادة انتاج القديم بصورة مغايره بغرض التجديد ربما ولكن النتيجة احيانا تكون كارثية وتنقلب الى الضد. قبل اكثر من اربعين عاما كتب الاستاذ هيكل مقالا شهيرا عن السودان تحت عنوان(ثم ماذا بعد في السودان؟.)وهو مقال بقى في اذهان الجيل المخضرم من السودانيين الذين عاشوا فترة الستينيات التي عبر عنها هيكل في مقاله ذاك. ورغم ما اشيع عن هيكل بعزوفه عن تناول أي شأن سوداني بعد هذا المقال الا ان اغلب السودانيين ظلوا يتابعونه على قناة الجزيرة عبر برنامجه الشهير(تجربة حياة)حيث يقوم باعادة قراءة التاريخ من وقائع وثائقه وكتبه واضابيره التي يقوم بعرضها مباشرة على الشاشة وامام الجمهور لكن يبدو ان مسلسل البرنامج قد طال حيث يدخل عامه الخامس وربما ان الاستاذ هيكل والذي قد يبدو ان معينه لا ينضب صار يلجأ احياناً لتحريك بعض الاحداث القديمة واعادة صياغتها بصورة تبدو اكثر اثارة للمتلقي رغم انه حقيقة لا يحتاج لذلك لو علم مكانته الرفيعة لدى متابعيه.وبالتالي فان سقطات كتلك التي عنى بها استشهاد الامام الهادي-وغيرها - قد تنعكس سلباً على سمعته من منطلق اكاديمي بحت. نحن لا نطعن في المكانة المتقدمة لهيكل صاحب المدرسة المتفردة في الصحافة والتوثيق وعلم المعلوماتيه.هيكل صاحب الجمل القصيرة والاعتراضية والاستدراكية المفنّده والذكية،جملا ومقدمات تبدأ بوضع وتهيئة قاعدة معلوماتيه ليبنى عليها هرما لاطروحة ونظرية ورؤية محددة لديه يصاحبها زخم خرافي من التفاصيل والتي يستغلها بذكاء في التحليل المنهجي للوصول لاثبات اطروحته او فكرته ايا كانت وهو حين يكتب او يتكلم انما يفعل ذلك بحرية وثقة تامة تجعله ينطلق في مسار استنتاجاته وبناء منظومته وهو يعلم تماما ويؤمن بالفكرة الاصولية التي تقول (ان الحقيقة تحررك)!! اذن فان الكود الاخلاقي ( ) للعلم والمعرفة يفرضان على الساعي وراء الحقيقة ان يلتزم النزاهة والحق في استجلاء الحقائق اولا وثانيا في اعادة طرحها وعرضهاعلى من يجهلها.الاستاذ هيكل يعلم ذلك تماما كدارس للتاريخ،واي اخلال بهذا النسق انما يكون لغرض يعلمه هو دون سواه.. ويوظفه كيفما يشاء . خلال الايام الماضية وعبر نقاشات وحوارات جانبية حول تعليق الاستاذ هيكل غير الموفق حول مقتل الامام الهادي حاول البعض استذكار واعادة قراءة مقال هيكل ثم (ماذا بعد في السودان) والذي كتبه بعد ثورة اكتوبر عام 1964،لم يختلف اكثر الذين تحدثت اليهم عن تأكيد شعورهم بان الاستاذ هيكل لديه غل او شعور غير طيب نحو السودان لم يبارحه طوال حياته ولا يدري احد لماذا هذا الشعور رغم انه يعرف تماما ان اكثر قرائه كانوا على الاقل في الماضي من السودانيين عندما كان يكتب مقاله الشهير الاسبوعي(بصراحة) بل يتابعون ويهتمون بكل ما يكتب حتى وان ساءهم ما كتب او اختلفوامعه. من هذا المنطلق قمت باعادة قراءة المقال الشهير ويمكن ان الخصه في النقاط التالية التي قد تدلنا على بواعثه نحونا : ان روح مقاله تعكس الشعور بخيبة الامل الذي غلب على كثير من المصريين الذين فوجئوا باختيار السودانيين اعلان الاستقلال من داخل البرلمان بعد ان عاشوا (المصريين) وهيأوا انفسهم بان شعار وحدة وادي النيل هو التيار الغالب ضد التيار المنادي بالسودان للسودانيين. وهنا ذكر هيكل انه من ذاك الجيل الذي افتأت على اسطورة او حتمية السيادة المصرية على السودان سواء في شكل تبعية مباشرة للتاج المصري او وحدة كاملة ايضا تحت حكم مجلس قيادة الثورة المصري. اظهر الاستاذ هيكل نفسه بانه كان متقدما ومستبقاً لسذاجة الاتجاه المصري الذي افترض حتمية الوحدة الكاملة لوادي النيل اذ نادى هو بان تقوم الوحدة بقناعات تامة من كلا الطرفين بعد اكتمال تكافؤهما ونديتهما وذلك بان يتخلص كلا الطرفين من ادواء وعلل الحياة السياسية باستقلالهم اولا عن المستعمر المشترك بريطانيا،وان الوحدة التي تبنى على هذه القاعدة ستكون اقوى وابقى ،وهو في ذلك انما يردد الجملة المفصلية في ادبيات تاريخ التحرر والكفاح المصري ضد الانجليز والتي كانت تقول (بان السودان كان دائما هو الصخرة التي تتحطم عليها مفاوضات الجلاء عن مصر من قبل الانجليز..) انه تناول (ثورة اكتوبر) بقدر عال من الحذر المحسوب بذكاء والبعد عن العواطف،دون ادانة او تأييد مباشر خاصة وان كان تاييدا يبشر بنظام ديمقراطي برلماني لم يكن من المنطقي ان يؤكده بصورة مباشرة الاستاذ هيكل و(ثورة يوليو)) هي التي تحكم مصر وليس حزب الوفد.فقد قال هيكل «والصورة التي اراها في الخرطوم ان انتصارا شعبيا هائلا قد تحقق ولكن هذا الانتصار ليس حاسماً وانما معلق بتوازن دقيق وخطير في نفس الوقت».عموما فقد تحاشى هيكل وصف(ثورة اكتوبر) بانها ثورة شعبية وانما عمد لاظهار التغيير بانه جاء نتيجة عوامل لم يتم التخطيط لها في مقابل انقسام السلطة المسلحة كما اسماها هو. ثم تساءل هيكل في معرض استعراضه لتطور الامور في السودان اثر انتصار الثورة الشعبية وذلك عندما نصب سؤالين كبيرين اعتقد انهما كانا المصدر المباشر لتشكيك اغلبية السودانيين في حسن نوايا الكاتب الكبير نحو (ثورة اكتوبر) وذلك عندما تساءل هيكل بوضوح « و هل يستطيع الشارع السوداني ان يحتفظ بوحدته التلقائية التي وقعت في لحظة نفسية مواتيه وبغير قيادة تتولى التنظيم الدقيق ؟؟ «ثم تساءل ثانية»وهل ستبقى السلطة العسكرية منقسمة على نفسها ولا تستجمع قواها للانقضاض من جديد ضد الثورة الوليدة غير المنظمة؟؟» وهو بالطبع تساؤل قد يكون كثير من منتقدي هيكل قد حسبوه من قبيل التفكير المؤمل او المتمنى (WISHFUL THINKING) !! بعد ذلك دخل هيكل في فذلكة تاريخية عن تاريخ الانقلابات العسكرية في المنطقة وعقد مقارنة بين انقلاب (الفريق عبود) وانقلاب(عبد الكريم قاسم) في العراق(14 تموز) مهيأً ذهن القارئ لما اسماه بخضوع المنطقة لروح التغيير والتي كما يبدو قصد منها هيكل ان النمط الناجح والمناسب للمنطقة هو عبر (الثورات العسكرية)!! ثم استعرض هيكل الارهاصات التي سبقت اكتوبر ابان حكم الفريق(عبود)متهماً اياه بمقابلة تململ الشمال والجنوب بالقمع الامر الذي ادى للثورة في الشمال ضد قمع الحريات والمطالبة بالانفصال في الجنوب،الا انه ركز على ان كل ذلك كان يتم دون تخطيط ولا قيادة،بل انه ذهب الى حد قوله بان التخطيط والقيادة لحقت بالاحداث ولم تستبقها وتبادر بها ،لاغياً بذلك دور القيادات السياسية الوطنية في التهيأة العامة للمناخ المفضي للثورة الشعبية. هذا باختصار شديد استعراض لمقال هيكل الذي كتبه قبل حوالي 45 عاما مقييماً للاحداث والتطورات عقب ثورة اكتوبر عام 1964م. ولعل العنوان على صدر هذا المقال فيه كثير من تلخيص الرأي حول ما نراه اليوم من موقف الاستاذ هيكل حول كل ما يتعلق بالشأن السوداني.فالنوستالجيا او الحنين الى الماضي قد لا تجوز في كتابة التاريخ،حيث انه نهج يتأرجح بين طرفي الموازنة بين رؤية التاريخ من منظار عاطفي يضع الاشياء في قوالب يتمناها الناظر للأحداث ويراها بمنظاره هو او الرؤية المتجردة التي تلتزم الواقع قدر الامكان وتعمد الى رصد الاحداث وابعادها سواء على مستوى التحليل او الاستنتاج على اسس متجردة ونزيهة. اخطر ما في هذا المنهج انه شرك يقع فيه كثير من العلماء والاساتذة وهيكل لا يستثنى عنهم، فعندما ينضب معين هؤلاء يبدأون في اجترار الماضي بحنين او بغير حنين لكن باعادة صياغة وانتاج للاحداث باضافة الاثارة وعنصر التشويق بغرض التجديد لخلق الاقبال على عروضهم التي قد تبدو بعد اعادة تكرارها مملة او بائرة في سوق خلقت منه الفضائيات مجالا واسعاً للتنافس وتقديم العروض المماثلة. ليست البورصات وحدها التي تفلس ولكن العباقرة والحكماء واصحاب الفكر قد يصيبهم احيانا افلاس وركود بضائعهم التي كانت قد عرضت من قبل ولا يبقى لديهم الا تجديدها في شكلها وليس مضمونها الذي يستحيل ان يتغير مهما اجتهد اصحابها. وفي نهاية المطاف تبقى الحقائق والتي هي الدروس الثابته والمستفادة،يدركها هيكل وكل من له اهتمام بقضية العلاقات المصرية السودانية وحتميتها حتى وان تأرجحت على بندول الزمان واختلاف المكان،وحتى وان لم تحسم شكلا ما بين وحدة كاملة او اتحاد تكاملي استراتيجي لانها تقوم على علاقة مخصوصة تستبق التاريخ الذي يكتبه الاستاذ هيكل اوغيره ولا تبدأ منصتها للانطلاق من ثورة يوليو 52 او اكتوبر 64 مهما حاولنا من تخفيف عنصر العاطفة فيها فان الحقيقة تبقى بانها وحدة زمان ومكان بدءا منذ فجر التاريخ بانسيابية طبيعية كان للانسان الحاكم فيها عنصرا سلبيا اكثر منه ايجابيا على طول الزمن،والنيل الذي قيل انه الرابط الاساسي ثم عاد البعض واستخف بسذاجة هذا الطرح وسط اطروحات الاستراتيجيات الحديثة المعقدة من نفط ومعادن وقواعد عسكرية .. ثبت مؤخرا ان النيل هو عظم الظهر في مثل هذه الاستراتيجيات ،وان الماء الذي يجري في مجاريه هو شريان الحياة الذي سيبقى على العلاقة مستقبلاً او ينسفها؟ هل الاستاذ هيكل سيعني في المرة القادمة بقضايا المياه وخطورتها الاستراتيجية في المنطقة اكثر من سلة فاكهة مانجو مسمومة لا يهم كثيرا ان قطفت في مصر او في السودان ؟؟ هذا هو السؤال الاهم من (ثم ما ذا بعد في السودان)!