٭ تأتي وقائع كثيرة في التاريخ.. وتختلف وجهات النظر حولها وحول تفاصيلها ودفوعها.. وكثيرا ما يتحدث الساسة والعلماء عن كتابة التاريخ ومحاولة تزويره أو الشوشرة على أحداثه.. وكثيراً ما نسمع عبارة آفة الأخبار الرواة.. والرواة سواء كانوا ناقلين او معاصرين قد تأخذهم اغراض أو أجندة وتقودهم الى تغيير بعض الحقائق أو كل الحقائق. ٭ أخذتني هذه الخاطرة وأنا استمع الى هيكل في قناة الجزيرة في برنامجه الاسبوعي يوم الخميس الفائت والذي يعاد عادة نهار الجمعة.. هيكل يحكي تجاربه ويتحدث كشاهد عصر عن كثير من الاحداث والأمور الشائكات وغير الشائكات.. ودائماً يتحدث وكأن مفتاح الحقيقة عنده. ٭ من ضمن ما تحدث فيه أمسية الخميس أحداث الجزيرة أبا التي وقعت في السودان عام 0791م إبان ثورة مايو واخذ يتحدث عن طلب الرئيس نميري للمساعدة في السيطرة على تمرد الانصار في الجزيرة أبا وكيف كانت استجابة الرئيس جمال عبد الناصر واعتزامه التدخل العسكري في الاحداث.. وتحدث عن نفسه أي هيكل وكيف كان تدخله ونصيحته للرئيس جمال بعدم التدخل.. الى أن اتصل به الرئيس جمال وأبلغه انه أخذ برأيه وصرف النظر عن التدخل العسكري في أحداث السودان. ٭ و هذه لا قطع لي فيها وان كانت تفتقر الى الدقة بل والحقيقة والشفافية التي يتحدث عنها هيكل كثيرا.. بل هذا هو الذي جعلني أفكر في إعادة النظر في كل ما قال وكتب خلال كتبه العديدة من الصحافة والسياسة، الى آخر ما كتب وما قال خلال برنامجه الاسبوعي عبر قناة الجزيرة والذي يبث كل خميس بعد أن أعلن اعتزاله الكتابة بعد بلوغه الثمانين. ٭ الأخبار آفتها الرواة.. قد تكون هذه حقيقة تأتي في زيادة الخبر او نقصانه او المبالغة في سرده.. ولكن ما فعله هيكل هو تأليف واقعة تاريخية من الألف الى الياء.. مقتل الامام الهادي.. ويقول هيكل وكأنه يجهل جغرافية السودان ويخلط ما بين الكرمك وكسلا.. ويتجاهل محكمة طويلة وعريضة واحداثا شهودها مازالوا على قيد الحياة.. محكمة أقيمت في الخرطوم لمقتل الامام الهادي.. وثبت من خلالها انه توفي نتيجة طلق ناري اصابه في فخده.. في ظروف أقرب للغرابة أثناء محاولته ومرافقيه الخروج من السودان بعد أن غادروا أرض المعركة في الجزيرة أبا.. والرواية التي وردت في المحكمة.. انهم اقتربوا من الحدود الاثيوبية والطريق كان وعراً ولا يسمح بمرور العربات وقرروا ان يجتازوا المساحة ما بين موقعهم والدخول الى اثيوبيا مشياً على الاقدام، وارسلوا من يجلب لهم بعض الماء من القرية التي لا تبعد كثيرا وعندها ارتاب احد افراد البوليس وظنهم تجار أسلحة.. وعندما ذهب ليتأكد ظنوه قد تعرف عليهم وأخرج أحدهم مسدسه وصوبه نحوه وما كان من جندي البوليس الا ان أطلق رصاصة اصابت الامام ولم يعرف انه الامام الا بعد أن صرخ ابنه الفاضل الذي كان في معيته «انك ضربت الامام الهادي». هذه الرواية التي ثبتت في المحكمة وتجاهلها تماما هيكل ، بل وأورد سبباً لمقتل الإمام يدعو للضحك والاستغراب ويجعل الاستفهام يتسع ويتسع لمعرفة السبب الذي قاد هيكل لايراد ما قال وكأنه يملك الحقيقة ويفاجئ العالم.. «الامام الهادي مات في كسلا مسموما بمنقة او كما قال بسلة منقة من كسلا».. فكيف احتفظ هيكل بهذه المعلومة طوال الاربعين عاما الماضية وبالقطع يكون قد سمع بنقل رفاة الامام الهادي من الكرمك الى ام درمان وقد وجد مع الرفاة خاتم يخص الامام.. لماذا اختار هيكل ان يقول الامام الهادي مات مسموما في هذا التاريخ بالذات؟!. ٭ ردود الفعل التي أثارها حديث هيكل لقناة الجزيرة.. الحديث الذي شوش على التاريخ.. والذي يشوش على التاريخ من خلال واقعة واحدة وبهذا المستوى على استعداد لان يفعل هذا التشويش على كل ما يتناوله في حديثه عن وقائع حدثت في السودان أو في غيره. ٭ والعزاء ان ردود الفعل جاءت ايجابية وتصدت الصحف الى حديث هيكل بالتصحيح والتوضيح لابناء هذا الجيل الذي لم يعاصر الاحداث حين وقوعها ولم يشهد المحكمة التي عقدت في ثمانينات القرن الماضي. ٭ الأخ عمر محمد الحسن «الكاهن» حصل على إفادة من اللواء خالد حسن عباس عضو مجلس قيادة ثورة مايو.. نشرت في صحيفة «أخبار اليوم» عدد الاحد السادس من يونيه وكانت الافادة كالآتي: «على إثر التصريحات التي صدرت امس الاول على لسان الصحافي المصري المخضرم وزير الاعلام الاسبق محمد حسنين هيكل حول مقتل الامام الهادي المهدي في مارس العام 0791م بعد الهجوم الذي شنته القوات المسلحة على أنصاره في منطقة النيل الأبيض في أعقاب أول زيارة يقوم بها نميري للمنطقة في مطلع الشهر السابع لثورة 52 مايو 9691م استفسرنا أمس اللواء خالد حسن عباس عضو مجلس قيادة الثورة الذي كان يتولى وقتها رئاسة هيئة الأركان في القوات المسلحة ونفى نفياً قاطعاً أن يكون الراحل الامام الهادي المهدي قد توفي مسموماً وقال في لقاء خاص معه مساء أمس السبت ان الذي حدث بالضبط كان كالآتي: انه في أعقاب مغادرة المرحوم الهادي المهدي للجزيرة أبا متوجهاً جهة الشرق كان قد توقف مع مرافقيه جوار نقطة للشرطة.. ثم نادوا على طفل صغير وطلبوا منه امدادهم بالماء وكان الطفل هو نجل الشاويش «الرقيب» المسؤول عن النقطة ولما ذهب ليأتي بالماء أبلغ أباه الذي حمل معه بندقية وتوجه الى حيث المرحوم الهادي ومرافقيه الذين لما وقعت أعينهم على الشاويش اطلقوا عليه النار ظناً منهم انه تعرف عليهم ورد الشاويش عليهم بطلق ناري اصاب المرحوم الهادي في فخذه وفر جميعهم هاربين وتبين من بعد انه ظل ينزف دما من موقع الطلق الناري حتى فارق الحياة. ٭ وقال هيكل أراد أن يخلق شيئا من البطولة ليؤكد انه كان يسير الرئيس عبد الناصر بينما هو معلوم ان عبد الناصر كان صاحب قراره وسيد رأيه ولم يكن هناك من يملي عليه أي قرار أو أية فكرة «والا لما كان عبد الناصر» واضاف اللواء خالد ان تقاليدنا السودانية وتاريخ بلادنا السياسي لا يعرف مؤامرات القتل البطيء لا بالتسمم ولا بغيره واننا أمة لا تعرف التخلص من خصومها السياسيين بالقتل او الاغتيال عبر أية وسيلة.. وذكر ان وضع السم في المانجو أو في غيرها من الفاكهة أو أي طعام هو أمر لا يشبهنا ولا يشبه تقاليد أهل السودان.. وأشار اللواء خالد الى المحاكمة التي جرت في حق من وجهت اليهم الاتهامات بقتل الامام الهادي في أعقاب ابريل 5891م وان القضاء أصدر قراره ببراءة جميع المتهمين بمن فيهم الشاويش المذكور.. وقال ان على هيكل أو غيره مراجعة نفسه لأن هذا الامر يمس التاريخ الذي لا يرحم. ٭ الى ذلك كشف اللواء خالد ان الجزيرة أبا لم تتعرض إطلاقاً لاطلاق النار عليها وكل أهداف القوات المسلحة كانت محصورة في منطقة «المحلج» التي تعرض فيها بعض افراد سلاح المظلات الى الضرب وكان يقود الهجوم منها على القوات المسلحة بعض السياسيين من معاوني المرحوم الامام الهادي.. وأكد أن الامام الهادي لو كان قد وصل كسلا لما مسه أي ضرر أو تهديد باعتباره بلدا آمنا بأهله ومواطنيه. ٭ يذكر أن تصريحات محمد حسنين هيكل كانت قد وردت من خلال برنامجه الاسبوعي الذي تبثه قناة الجزيرة مساء كل خميس ويتناول قضايا مصر في تاريخها الحديث خصوصا في عهد الرئيس عبد الناصر الذي كان هيكل أحد أبرز معاونيه، وقام بترفيعه من رئيس تحرير الاهرام الى وزير الاعلام خلال العام 8691م ومضى في منصبه حتى وفاة عبد الناصر في 82/9/0791م. ٭ إلى ذلك ذكرت مصادر عليمة في دوائر الشرطة استفسرناها مساء أمس انه عند نقل رفاة الامام الهادي الى قبة المهدي بأم درمان في عهد حكومة الصادق المهدي عثر على خاتمه الى جانب الرفاة وكان أثر المقذوف واضحا على أحد العظام ضمن الرفاة وفقا لنتائج المعامل الجنائية. ٭ أخيراً نضيف ان الاستاذ عبد الباسط سبدرات كان محامي الدفاع عن المتهمين باغتيال المرحوم الامام الهادي في المحاكمة التي جرت في الخرطوم حيث أصدرت المحكمة قرارها ببراءة جميع المتهمين.