هذا الزمان الذي كثرت فيه الكتابات وتزاحمت على المتلقي ثمرات الإعلام، لا يجدي سوى أسلوب واحد نلفت به عين القارئ العام؛ هو ما أسميه (التوصيل) ، وهو ما تلجأ إليه المطاعم والأسواق لتسليم إنتاجها للزبون من باب إلى باب. فهذه مقدمة سطرتها لكتاب أدبي بقلم الدكتور محمد وقيع الله أحمد صادر منذ سنتين، وتعيد نشره قريباً دار جزائرية، وآمل أن تتسع لها المساحة في صحيفتنا «الرأي العام»: يسجل الدكتور محمد وقيع الله صفحات ناصعة من التاريخ الأدبي والثقافي في القرن العشرين، ويستعيد بهذا الكتاب (في آفاق النقد الأدبي الإسلامي) ذكريات عطرة عن رموز أدبية من أمثال محمد محمود شاكر، وطه حسين، ومحمد إقبال، ومحمد محمود الزبيري، وعبد الله الطيب، وعمر بهاء الدين، وعلي الطنطاوي ... بعضهم أخذنا عنه وتلقينا العلم على يديه، وبعض آخر تأثرنا به في الحياة العامة الثقافية أو العلمية. لقد ترسخت (الأيام) لطه حسين في ذائقتنا الأدبية، وتركت معارك آل شاكر الأدبية بصمات لا تمحى في ذاكرة جيلنا. كذلك مذكرات الطنطاوي وأشعار الزبيري، حين نعود إليها بعد هذه السنوات نشعر أنهم لا يزالون بيننا، يعيشون هموم الحاضر ويترقبون معنا المستقبل. يقدم محمد وقيع الله لشباب القراء شهادة على عصر عايش فصوله بوجدانه وفكره، ويبعث ذكرى عهد زاهر بصوره وشخوصه. نقول ذكرى لأن كثيرا من الناس في هذا الزمن اللاهث السريع ربما يرون أن انتساب هذه الأسماء إلى حاضرنا لا يبرح يتبدل أمام أعيننا. ولكن متى كانت الآثار الأدبية الخالدة مجرد ذكرى ؟ إن التراث الأدبي والفكري لأمتنا يظل جزءاً من واقعنا، بل إن واقعنا هو جزء من ذلك التراث، ولا يستطيع أن ينفك عنه أبداً. وقد يلاحظ القارئ سمات معينة لهذا الكتاب ومنهجه، نشير إلى شيء منها في عجالة. أولى هذه السمات أن الشخصيات التي تناولها الكتاب بالنقد والتحليل تقع من الكاتب إما في موضع الإعجاب أو الهجوم. فالكاتب حين يذكر بعضاً منهم يبدي لهم إجلالاً واحتراماً، وهذا أمر معقول أن يحترم الكاتب من تعلم منه. خذ مثلا قوله عن الأميري : « إن شاعرنا الذي نقبس منه هذه المرة هو شاعر العقيدة المغرِّد عمر بهاء الدين الأميري الذي أنجبته أرض النجابة، ومهد العلم، والفن، والشعر، حلب الشهباء «. ويمضي الكاتب في تقريظ الأميري إلى درجة أنه يرفعه في ما كتب من شعر بروح الإسلام فوق شعراء حلب التاريخيين من أمثال المتنبي وأبي فراس الحمداني. ويعود أسلوب الكاتب لينبض بمعارضة قوية حين يتناول بالذكر سيرة أدباء آخرين يثيرون نقمته وغضبه إلى الحد البعيد. يظهر هذا الغضب عند الكتابة عن نوال السعداوي، وكذلك عندما يتكلم عن وليمة أعشاب البحر. وهكذا فإن الناقد يبدو مفرطا في الحالتين؛ تمجيده أو معارضته. ودعنا نلتمس العذر للكاتب، فمن غير الممكن أن نتعامل مع موضوع أدبي دون تفاعل عاطفي معه إيجابي أو سلبي؟! لا أحسب أن الكاتب لديه رغبة شخصية أو مأرب ذاتي فيما يكتب وما يدع، وليست لديه أحكام مسبقة، إنما يكتب بمنهج سليم يبدأ بالمقدمات والأسباب ليخلص من خلال التحليل والمعالجة إلى الاستنتاج العلمي الرصين. سمة أخرى لهذا الكتاب هي أن القارئ الذي يتعرَََف على هؤلاء الأدباء من قريب أو قرأ عنهم قراءة مستوعبة، يود لو أن خاطرة أو لمحة ما، هنا أو هناك قد ذكرت لتكتمل الصورة عنده ... كنت أقابل الشاعر عمر بهاء الدين الأميري بين الفينة والأخرى، سألته ذات مرة: كيف قلبك ؟ وكنت سمعت بعارض صحي تعرض له ، فرد على الفور: ياقلب إن شذا الشهادة من ربا الجنات فاح فاغنم دقائقك البواقي في المراقي والكفاح! وهي من قصيدته (أطلق عنانا يا زمان). وددت لو أن الدراسة الشيقة عن الأميري وعن قصيدته في هذا الكتاب تضمنت هذين البيتين، لأنهما مربط الفرس في القصيدة كما يقولون . إن جلَّ شخصيات هذا الكتاب هم من المعاصرين، وقد يكون مستغرباً وجود شخصية مثل المتنبي بينهم، لكن المتنبي يبقى همزة الوصل بين أدباء العصور المختلفة، فهو باق فينا بشعره وسيرته. وكان التركيز هنا على جانب من شخصية المتنبي هو طموحه السياسي وأمنياته العريضة بالولوج إلى عالم السياسة والحكم. والكاتب يعالج جانباً مهماً هو حيرة العلماء والمثقفين بين رياسة القلم ورياسة السيف؛ بين السياسة والثقافة، وينتهي إلى استنتاج مهم هو أن قيمة الإنسان هي في إنجاز ما يحسنه لا في التعلق بالمحال من الأرب. وليسمح لي القارئ الكريم بين يدي هذا الكتاب أن أكلمه قليلا عن كاتبه. إنه محمد وقيع الله أحمد الأستاذ في معهد العلوم الاسلامية والعربية في واشنطن، عمل أول عهده بالتدريس الجامعي في جامعة أمدرمان الإسلامية، وأقام بعد ذلك سنوات في الولاياتالمتحدةالأمريكية. صاحب بحوث ومؤلفات عديدة في السياسة والأدب والثقافة. يصف المؤلف نفسه في موضع من كتابه هذا بأنه : « ذو آراء متواضعة في المجال الأدبي بحكم تطفله عليه «. لعل الكاتب قصد القول إنه ليس بذي اختصاص صميم في الدراسات الأدبية. إن أغلب رواد الأدب الذين كتب عنهم المؤلف لم يضعوا الأدب يوماً في المقام الأول، ومع ذلك أنتجوا آثاراً خالدة. ومن يعرف الدكتور وقيع الله وانقطاعه منذ سنوات عديدة لدراسة السياسة وتدريسها، يظن أن السياسة أفسدت ذوقه الأدبي، ولاسيما أنه أقام كل هذه السنوات في البيئة الأمريكية التي يصفها كاتبنا بما وصف به ميخائيل نعيمة مدينة نيويورك:» غلظتها وجلبتها واختناقاتها «، إنها بيئة الثقافة (الرقمية) وحياة الكد المضني والاستهلاك. وإني لأسأل كيف احتفظ صاحبنا حقاً بحس الشعر والأدب! عرفت محمداً منذ الدراسة الجامعية، وعندما تفرقت بنا السبل بقى يؤلف بيننا حب الثقافة والأدب، ذلك الحب الذي أقمناه مقام النسب كما يقول أبو تمام: إن يختلف ماء الحياة فماؤنا عذبٌ تحدَّر من غمام واحد أو يختلف نسب يؤلف بيننا أدبٌ أقمناه مقام الوالد! وظلت توافيني منه رسائل نابضة بالكلمة الساحرة واللفتة الباهرة ... وذلك قبل أن يخترع البريد الإلكتروني! كتب إليَََ ذات مرة وكنت عائداً يومذاك من لبنان: « الحمد لله على عودكم من ذرى لبنان هانئين غانمين، ولربما نسمع شهادتكم عن لبنان بأنها أحلى رياض الأرض كما يقال. ولقد استدعت للخاطر زورتكم لها هذه الأبيات من كلمة طويلة شائقة لجورج صيدح : كلِِلي بالزهر هامات الصَّبايا وارفعي الرايات يا دار صِبايا راقبي في الأفق ركبا طائراً حاملاً للوطن الغالي هدايا المنارات اشرأبت فوقه والطيور انطلقت تُهدي التحايا جدَّ في السير فما استوقفه برَدى إلا لترويح المطايا حجَّ لبنانَ وكم من نازح روحه حجت متى الجسم تعايا! وهي من قلائد الشعر وفرائده كما ترى، وهذا مستهل القصيد، وقد ضاع من ثنايا الذاكرة باقيه. وأذكر أني حفظته من ربع قرن ويزيد من إحدى أعداد مجلة الأديب «. هذه القطعة من البيان شاهدة لكاتبها على الروح الأدبية، وقد ذكرتها في هذا المقام لهذا الاعتبار. أعادتني الأبيات إلى ذلك الزمن الجميل يوم كنا نتعاطى الطارف والتليد من منتخبات الآداب، ولعل ذلك العدد من مجلة «الأديب» مما قرأناه معاً، ولعلني هاهنا أنعش ذاكرة كاتبنا بأبيات أخرى في تلك القصيدة عبََّر بها الأديب المهجري عن غربته يصف حال المغتربين العائدين إلى حضن الوطن في خريف العمر: رُبَّ كهل عاد منهوك القوى كان يوم البين طلاَََع الثنايا لم يجد من عهده في قومه باقياً غير المخازي والشكايا أكل الدهر على أترابه فإذا عفََ فعن بعض النفايا اللذاذات التي يشتاقها أصبحت في أرذل العمر رزايا والصَّبايا إن ترفقن به قلن يا شيخ اجتنب برد العشايا ولقد ينكره الأهل إذا لم تعرفه بأهليه العطايا يا لها من غربة ثانية في صميم الدار ما بين الولايا! وختاماً، فإني أعيذ كاتبنا الأديب محمد وقيع الله من مصير هذا الشاعر المهجري وغربته الثانية، وقولهن: يا شيخ اجتنب برد العشايا!