قرأت كتاباً للأستاذ حسن محمد النعيم عن بخت الرضا، وهو من ناحية الدامر، سافر لبخت الرضا وعمر «12» عاماً، وتخرج في بخت الرضا، ونال كورسات بجامعة أكسفورد عن التربية وعلم النفس، ومثلها بالجامعة الامريكية ببيروت، وقد عمل حسن النعيم معلماً وناظراً أي مدير بلغة اليوم، في كل من الدامر والعالياب والمكايلاب بنهر النيل، ثم انتقل لمعاهد التربية بكل من الدلنج وكسلا وبخت الرضا بالدويم. وحسن النعيم باحث في مجال التربية، والكتاب بعنوان «بخت الرضا والتعليم الأولى بالسودان» وهو تطواف في رحلة الباحث وتداعياتها منذ كان عمره «12» عاما إلى أن أحيل للمعاش 1990م. ويبدأ الكتاب برسم كاريكاتيري لطفل خلف السبورة، والتعليق «ليس الولد سبورة تكتب عليها المعلومات».. وفي رسم آخر هنالك معلم يدلق ماءً من صفيحة داخل زير، والتعليق المكتوب «ولا هو زير لتملأه بالمعلومات».. ويفيد حسن النعيم بأنه بشر حي نشط قابل جسمه وعقله وروحه للنمو إذا ما أعطيته كتاباً ثراً بالمعلومات وأساليب التربية. والكتاب به عز واعتزاز بطلاب بخت الرضا وأساتذة بخت الرضا. وفيه فخر وافتخار بأهالي الدويم، ويهدي الكاتب سفره إلى كل أم سودانية وإلى أي أب وكل معلم ومعلمة، ويصفهم بأنهم الذين يقع عليهم عبء تربية الناشئة تربية ترقى بهم للمواطنة الصادقة النبيلة.. وللإنسانية الحقة الأصيلة حتى تقودهم نحو التكليف الرباني.. والكتاب فذلكة تاريخية لبخت الرضا منذ تأسيسها، ويحلق بنا المؤلف وهو يمتلك ناصية الروى والحكي في سماوات التعليم، ويفيد أن البداية الحقيقية للتعليم لم تكن واضحة، وان ما وصل يشير إلى ان التعليم بدأ بالخلوة.. ولكن الثابت أن هنالك وثائق تثبت أن السودانيين عرفوا الكتابة منذ زمن بعيد قبل دخول الاسلام للسودان، وانهم تعلموا اللغة الفرعونية واتقنوها كتابةً وقراءةً وتعبيراً، وكان ذلك في عهد مملكة نبتة. ويتحدث الكتاب عن المسيحية في السودان ودورها في نشر التعليم المسيحي، إلى أن يصل إلى دخول الاسلام للسودان، ويكتب عن إنشاء الخلاوى، ويعرف الخلوة بأنها مؤسسة تربوية تركز على تحفيظ القرآن والأحاديث والفقه، ويشير إلى ان الأتراك شجعوا الخلاوى بالسودان، كما انهم قد قاموا بفتح بعض المدارس على النمط الأوربي. ويشير ايضاً الى ان الاتراك وافقوا على فتح الإرساليات وجمعيات التبشير الديني بفتح مراكز للتدريس بالكنائس، واستمر الحال على هذا المنوال إلى أن جاءت الثورة المهدية، وفيها انصب التركيز على تعليم القرآن بالخلاوى. ويتحدث الكاتب عن السلوك الإنساني وأهداف التربية، الى أن جاء قريفث في عهد الاستعمار ووصف المنهج الدراسي بأنه منهج حفظ. ويشير إلى تاريخ 1934/10/18م، وهو التاريخ الذي افتتحت فيه بخت الرضا، وهو يوم مشهود في تاريخ السودان. ويذكر الاساتذة الأفذاذ الذين شاركوا في بناء بخت الرضا تخطيطاً وتدريساً. كالأستاذ عبد الرحمن علي طه ونصر الحاج علي ومكي عباس وعثمان محجوب ود. أحمد الطيب أحمد، ويشير إلى التلاميذ النجباء في ذلك الزمان الذين زينوا فضاءات البناء بحركتهم واجتهادهم في ردهات القاعات مثل بابكر عبد الرحمن وعبد اللطيف عبد الرحمن وأحمد الطيب عبد الحفيظ وصلاح أبو طالب ومبارك إدريس وعكاشة أحمد وسيد أحمد نقد الله والفكي عبد الرحمن، وهو الذي كتب كثيراً عن بخت الرضا وتناولها في كتابه «يا ما كان» وبقيام بخت الرضا بدأ التعليم الأولى في السودان يأخذ شكله وأسسه، وكان أول عميد لمعهد بخت الرضا مستر قريفث ونائبه حمزة حسين. ومؤلف الكتاب له ذاكرة تحفظ كل تفاصيل الحياة اليومية والبعوضة والملاريا وحمل المريض إلى الشفخانة بالكارو، ويذكر كل الشخصيات التي مرت على بخت الرضا من أساتذة «مدرسين» وتلاميذ. وهنالك اشارة مهمة ذكرت في الكتاب، وهي أن الملك عبد العزيز بن سعود ملك المملكة العربية السعودية أوفد ابنه الامير فهد ليتعلم في بخت الرضا، وكان ذلك اعترافاً من الملك بمكانة بخت الرضا، وكان ذلك في بداية الاربعينيات وتحديداً في عام 1945م، وقد كان في ذلك العام نائب العميد عبد الرحمن علي طه، وقد استضاف المرحوم الشيخ يوسف هباني ناظر الحسانية الأمير فهد في منزله بالدويم، وتم ادخاله المدرسة الريفية بالدويم وهي تابعة لبخت الرضا، ولكن اقامته لم تطل وتم تحويله ليدرس في مصر. ويحدثنا حسن النعيم في كتابه عن الداخليات والعنابر والجمعيات كجمعية الرياضة والحديقة، وعن مكتبة بخت الرضا، وأن الاضاءة كانت بالرتاين والفوانيس، وعن الثعابين ولدغها للطلاب والكومر عربة المعهد. وأن أول ما بدأ به بخت الرضا هو تدريس طريقة التفكير المستقيم، ثم عرج على تدريس التربية الوطنية. والكتاب سفر كبير يحتوي على تفاصيل بخت الرضا والدويم، وأناسها وطرقاتها ومطاعمها وعرباتها، فقد كانت بخت الرضا عُشق حسن النعيم ومازالت. وله التجلة والتقدير في ما سطر، ونتمنى منه المزيد لأن ما في ذاكرته وأوراقه الخاصة أكبر مما سطر ليضيفه دهشة وابداعاً.. وتحية لساكني الدويم ولأساتذة وطلاب بخت الرضا في كل السودان وهم ينشرون التنوير المعرفي.