هناك سؤال يطرح نفسه بالحاح شديد والبلاد مقبلة على وضع لا يرضاه مخلص او حادب على مصلحة الوطن،وضع سنرى فيه في الشهور القادمات انفصال جزء عزيز من الوطن ليشكل دولة مستقلة وهو أمر استمات في تجنبه المخلصون والحريصون على وحدة السودان بالمهج والأرواح ..ماذا ترانا نقول لكل هؤلاء في يوم قريب يصبح فيه الوطن وطنين والدولة دولتين والشعب شعبين ؟! ماذا نقول للطلائع الاولى من الاداريين الذين آمنوا بوحدة هذا الوطن وذهبوا افواجاً افواجا قبيل الاستقلال وعلى مشارفه الى جنوب الوطن ليوطدوا أول نواة ادارية وطنية للحكم في الجنوب ، وكلهم عزم صادق ان يلحق ذاك الجزء العزيز من الوطن بركب التنمية والمدنية.عملوا في الوحدات الادارية الاولى في محطات نائية وقصية، لا يؤنس فيها من وحشتهم ووحشة اطفالهم وزوجاتهم،الا ذاك الايمان الغامر بوحدة الوطن ووحدة ترابه واهله. الاطباء منهم- وكانوا من الرعيل الاول من خريجي مدرسة كتشنر الطبية- انهمكوا في علاج الاوبئة مثل عمى الجور والدودة الغينية ومرض النوم وغيرها من الامراض المستوطنة،وقاموا بافتتاح المستشفيات والوحدات العلاجية في بور وفي نمولي ومريدي وغيرها من مدن الجنوب..والمعلمون راحوا يضعون اللبنات الاولى للتعليم ويبسّطون المناهج ويعدلونها حتى تتواءم مع ذهنية ابن الجنوب لتنهض بمستواه التعليمي ، والى جنب هؤلاء عمل الرعيل الاول من الزراعيين والبياطرة في توفير الارشاد الزراعي والتوعية البيطرية..كل هؤلاء كانوا أول من دفع فواتير التمرد الباهظة ، فعشية إندلاعه في 55 قُتل جزء كبير من هذا النفر الكريم وحصدت الحراب والسهام أكباد اطفالهم وسُبيت زوجاتهم وتشردت عوائلهم في الاحراش ..فماذا ترانا نقول لتلك الارواح البريئة التي مهرت بدمها ودماء اطفالها وحدة الوطن ؟! ماذا نقول لارتال الشهداء من أبناء القوات المسلحة والشرطة وغيرها من القوات النظامية الذين ظلت دماؤهم تنزف في احراش الجنوب على مدار اكثر من نصف قرن ، وهم يرابطون في غابات الجنوب الاستوائية وفي النقاط الحدودية النائية ..ينامون بعين واحدة بينما العين الأخرى تتوجس من لغم يُزرع او كمين يُنصب او طلقة غادرة تُطلق ؟! شباب كريم في وهج شبابهم وعنفوانهم سقناهم في مواكب الى الموت منذ الخمسينيات ومنهم من لم يهنأ بزوجة او زواج .. ومنهم من ترك اطفالاً في بداية العمر وآثر ان يجود بروحه فداءً وقرباناً لوحدة هذا الوطن..ما كان هؤلاء قتلة او مرتزقة مأجورين ولكنهم أبناء هذا الوطن الواحد والشعب الواحد الذين قاتلوا ببسالة وايمان ، لا للوحدة والسلام فحسب ، وانما لحماية اهلهم في الجنوب من كيد الانفصال وحرائقه التي التهمت البشر والسكان والحرث والضرع على حد سواء... ماذا ترانا نقول لاولئك البواسل من الضباط والجنود ... وماذا نقول لاسرهم التي رحلوا وتركوها ؟! واولئك التجار الذين خرجوا من شمال الوطن وغربه وشرقه وقصدوا الجنوب سعياً وراء الرزق والعيش الكريم في وطن كانوا يحسبونه واحداً،فوطدوا دعائم الوحدة الوطنية وصاهروا اهلهم في الجنوب وانجبوا من الاطفال من باتوا اليوم آباءً كباراً وتمازجت في اوردتهم وشرايينهم دماء اهل الشمال مع اهل الجنوب..اولئك النفر الكريم من التجار الذين نقلوا البضائع واساسيات الحياة من السلع الى اهلهم في الجنوب وظلوا اوفياء بتجارتهم واموالهم لقضية الوحدة،كانوا ايضاً أول من افترستهم وافترست اسرهم واموالهم وتجارتهم تلك الحرب بضرام نيرانها المتقدة لعقود طوال...فماذا نقول لهم اليوم والانفصال يقف على ابواب الوطن الواحد الذي آمنوا به؟! ماذا نقول لقوافل الشهداء من الشباب والاطفال الذين تم تفويجهم الى الجنوب في بواكير عهد الانقاذ الاول وهم يضربون على الارض باقدامهم الصغيرة في عزم وثبات وتتوق أفئدتهم الى أعالي الجنان والى رائحة المسك من قبور الشهداء ؟ أولئك الذين تركوا مقاعد الدراسة في ثانوياتهم وجامعاتهم وتركوا اقلامهم وكتبهم واشواقهم والاهل والاحبة وراحوا يقاتلون في بسالة كما الأسود زوداً عن الوطن ووحدة ترابه..ماذا نقول لهم؟! بعد ان ودعوا الحياة لا حريرة ولا ضريرة ولا خضاب يحنن اليدين،دفعتهم الاقدار عرسانا الى عالم الخلود. وتلك الشريحة الواسعة العريضة من ابناء الوطن الذين تمازجت في اجسادهم دماء ابناء الشمال مع الجنوب فباتوا ينظرون بعين الى ابناء خؤولتهم في الجنوب وبالعين الاخرى الى ابناء عمومتهم في الشمال وهم حائرون ومتوجسون من مآلات مستقبلهم ومصير انتمائهم..يتساءلون اين تقذف بهم الجغرافيا السياسية المرتقبة لدولتى الانفصال ؟.. الى الشمال ام الى الجنوب، ام يصبحون(بدون هوية) ... ماذا نقول لهم ؟! ماذا نقول لاهل الشمال الذين ظلت فاتورة الحرب وكلفتها الباهظة تُمول وتُقتطع من رصيدهم ورصيد ابنائهم واحفادهم في العيش الكريم وفي الخدمات الاساسية من صحة وتعليم وأمن وطرق ومياه نقية وطاقة كهربائية وغيرها من البنى التحتية للدولة ...وهم يقتسمون اللقمة لسنوات طوال مع اشقائهم في الجنوب عربوناً للوطن الواحد الموحد دون أن ينعموا بأبسط المظاهر من تلك الخدمات الاساسية ، فشمال السودان وغربه وشرقه ظل لعهود طويلة تتشوق أنظار أبنائه لرؤية بضعة كيلومترات من الطرق المسفلته ولم يظفروا خلال نصف قرن بتحقيق بعض من هذا الحلم الا في السنوات الاخيرة !! لقد أنفقت الدولة المركزية من خزينتها العامة الكثير على بعض مشاريع التنمية في الجنوب ثم جاءت الحرب وجاء التمرد فأحال تلك المشاريع الى هشيم وانقاض،واصبحت ملايين الدولارات التي انفقت مجرد سراب وآليات محطمة ومبانٍ متصدعة...فمن سيدفع فواتير ذلك الخراب والدمار وإهدار الأموال؟! وماذا نقول لأهل الجنوب أنفسهم الذين أشقتهم الحروب الطويلة أكثر من غيرهم ، ففقدوا أرواح اطفالهم وأسرهم ومواردهم وأسباب عيشهم في حرب عبثية جعلتهم يهيمون على أوجههم طلباً للهجرة في دول الجوار وطلباً للنزوج في شمال الوطن،وهم يتساءلون فيم الاقتتال وفيم الاحتراب؟ إذ ما كسبوا من الحرب شيئاً ولن يكسبهم الانفصال سوى المزيد من العنف والاقتتال !! ماذا نقول لكل هؤلاء ؟! أخشى أننا لن نجد أية كلمات نقولها !