تحليل ثقافي: يقول الكاتب النيجيري شينوا أشيبي في كتابه مشكلة نيجيريا: «مشكلة نيجيريا بكل بساطة ووضوح هي فشل القيادة، ليس هناك عيب جوهري في الشخصية النيجيرية، ولا في الارض النيجيرية ولا في المناخ او الماء او الهواء او اي شيء آخر، مشكلة نيجيريا هي عدم استعداد قادتها او عدم قدرتهم على الارتفاع الى مستوى المسؤولية، والى مستوى يتحدى النموذج الشخصي، وتلك هي السمات الحقيقية المميزة للقيادة السليمة»، ينطبق هذا التشخيص على الوضع السياسي في السودان مع اضافة هي الاخطر من نوعها ان الفساد السياسي والاداري يأخذ طابعا مقدسا حين تصور الشعارات الايديولجية والهتافات المنبرية او الامتيازات والمظالم على انها حكم الله واقداره. ولكن لماذا لا نبدأ من حيث البداية وفي البدء كانت اللغة. الهُوية: بضم الهاء هي حقيقة الشئ او الشخص المطلقة المشتملة على صفاته الجوهرية منسوبة اليه هو، ضمير الغائب المفرد المذكر. الهوهو: لفظ مركب بمن هُو هُو جعل اسما معرفا باللام ومعناه الاتحاد بالذات. هوأ، هاء هوءا بنفسه الى المعالي رفعها اليها. الهوية إذن هي صيغة الاتحاد بالذات مفردة او جمعا وموضعتها بضمن سياق من ذوات فردية او جمعية آخر. اما تحليلنا السيميائي لدلالة الهوية فهو كما يلي: الهوية: «هو + أيّ» بمعنى «أيّ + هو» ايّ «ها» هو السوداني؟ فالهوية صيغة مركبة لسؤال الذات من ضمير الغائب «هو» مضافا اليه حرف الاستفهام «أيّ» للتمييز بين شعوب وقبائل للتعارف فيما بينها من جهة، وكذلك للتعرف على ذاتها والتعريف بها عرقيا وثقافيا من جهة ثانية اضيفت اليها تاء الاسم فصارت : «هو + اي + ة» هُوية. الهوية إذن معطي وجودي بضمن سياق من معطيات وجودية اخرى: سوداني، مصري، الماني، ....إلخ «قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى» الآية «50» طه. ثم هي تمييز نوعي بين ذكر وانثى مثلما انها تمييز إثنولوجي بين شعوب وقبائل: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن اكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير» الآية «13» الحجرات. الكلام عن الهوية السودانية هو كلام طريف وشائك في وقت واحد. ذلك انه كلام عن اسم جنس جمعي لتوصية تسمى السودان : السودان الواحد «سوداني»: جيل من الناس اسود اللون. هو إذن اسم لهوية لونية انفردت بتوصيف بصري من دون شعوب الارض لشعب غلبت عليه البشرة السوداء فهو سوداني صيغة لجمع والجمع من سود بلفظة قاموسية غير مستخدمة في هذا العصر، وهو ما يدل على ان هذه الهوية اللونية اطلقت تمييزا لذات عربية متاخمة في علاقة تقابلية بين بيضان وسودان او عربي وزنجي تسمية ازدرائية بصرية تعود الى ابني نوح سام وحام، حين قال نوح لقومه: «.... ولا أقول للذي تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني اذاً لمن الظالمين» الآية 31 هود. ومنذ ذلك العهد السحيق حظر اللون الاسود تاريخيا من استخدام صيغة ضمير الرفع المنفصل «أنا» حين لم يعد العبد الاسود كيانا حرا مستقلا يتحدث اصالة عن ذاته وانما صار ظلا يستخدم ضمير الغائب «هو» معلنا في ذات الوقت عن غياب الضمير الاجتماعي للعالم. ثم جاء اليهود المعتزلة الاوائل، وقد اعتزلوا الناس معرفيا عن ظلم اجتماعي وعلو عقائدي: «ذلك أنهم قالوا ليس لنا على الأميين سبيل» الآية 75 آل عمران، ثم اعتزلوا الناس عرقيا حين: «وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه» الآية 18 المائدة، وعلى ذلك أعادوا ترتيب الناس هرميا الى عرق سام وآخر حام متدنٍّ. ومثلما ان اللون الاسود هو لون ليس لتمايز الاشياء بصريا: «ومحونا آية الليل» كذلك فهو ليس لونا للتمايز المجازي. فحين تقول العربية: رجل من سواد الناس فهي تصف قيمة كمية اي تعني رجلا من عامة الناس لا متمايزا ولا متفردا، فهو نكرة ومبهم كالليل البهيم هو زيد. هذا التركيز على الشكل صرفاً للنظر الى العنصر هو الذي خفض المبدع السوداني وهضم حقه الادبي في سياقه العربي الاقليمي، ولو كان في قامة الطيب صالح او جزالة الفيتوري، فهو سوداني اي من سواد الناس وسودانهم، فهو متميز في من ليس ممتازا اصلا، هذا هو سر هوان هذه الهوية الكوشية البصرية التي تزدريها عيون الساميين على خلفية دينية: «أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين» الآية 54 المائدة. السودان إذن اسم لا يطلق الا من آخر، اذ لا يزدري ضمير المتكلم نفسه بوصمة السواد. ومن الغرائب أن هذه التسمية الازدواجية لا تثني الذات السودانية ولا تستفز كيانها حين يصبح الرفض الضمني لصورة الذات سلوكا قهريا يصم جمالية الفتاة السودانية بتبييض بشرتها وهي تبحث عن هويتها خارج جلدها السوداني في ذات الوقت الذي يبحث فيه السياسيون عن ملامح قومية تتجاوز الجغرافيا اللغوية والنسبية الثقافية الى الارومة العربية مطلقا عرقيا ومرجعا سلوكيا ونمطا فكريا ينسبون اليه كل فضائل قوميتهم من كرم وإباء وتسامح وعبقرية «وإلى العرب تنسب الفطن» ماذا تبقى إذن من «أنا سوداني» حين يصبح الأسود أبيض؟ انه الاستلاب الذي تحتاج فيه الهوية السودانية الى دروس في قبول الذات وتوكيدها على أنها حتمية فيزيائية اي معطي جينومي ونمط سلوكي: «قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى» الآية 50 طه هكذا يجب الاعتراف بهذه الذات من قبل نفسها هوية تعني الاتحاد بالذات بدرجاتها اللونية والثقافية المختلفة ابتداءً بالكف عن جلد الذات خطا منهجيا ممثلا في البحث عن الهوية السودانية خارج اطار توصيفها اللغوي لشكلها الاجتماعي ومضمونها الثقافي الانساني، وهو ما تفعله الفتيات والسياسيون دون جدوى كل على شاكلته من بحث عن بشرة ومضمون او شكل وسلوك خارج هذه الهوية السودانية المطبوعة. اما على سبيل التعايش الثقافي فليست هناك مشكلة هوية بما يجعل السلام الاجتماعي امرا مستحيلا وانما هنالك ظلم اجتماعي طال معظم فئات الشعب من جهة، وامتيازات وثراء سياسي مطلق وغير مسؤول من جهة اخرى. وبالتالي فالهوية التي يصار بها الى اشكالية سياسية هي في الواقع محض هوية حزب لا تتعدى عضويته النشطة بضع مئات من الأفراد ومن تصاهر معهم هم الاقلية المتشبثة بالحكم منذ قيام اول حكومة سودانية ولا أقول وطنية، فالوطنية جملة قومية لم تعرف الحكومة الشمولية إعرابها ابدا حين تلبس الهوية الإسلامية خارج السلطة وتخلعها وهي في سدة الحكم. ووضح الآن ذلك جلياً بأن الهوية الاسلامية هي محض شعارات سياسية ترفع لاسكات الآخرين، مع الاحتفاظ بسلطة ابدية مقدسة تستخدم الدين لحماية الايديولوجيا الشمولية ولحجب الموقع الطبقي الممتاز. وهذا الوضع الآن بات يهدد الهوية الحقيقة التي هي السلام الاجتماعي والتواصل العرقي والثقافي الذي ظل سائدا منذ ان وجدت الارض السوداء المسماة بالسودان. وكان النبي موسى عليه السلام يدعو ربه: لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين.. بيد ان الشعب العربي بشكل عام صار فتنة للايديولوجيات المرتكزة تاريخيا على منقذين كذبة يجعلون شعوبهم شيعا بما تملي مصالحهم السياسية ولا اكثر.. وفي كل الدول القومية ذات التعدد العرقي والثقافي يكون على الحزب الحاكم أن يتخذ تعبيرا موضوعيا ينحو الى خلق مقاربة سياسية تعمل قاسما مشتركا يقبل القسمة على التعددية ويجسّر للمسافات الثقافية باستلهام الوحدة الجغرافية واقعا اقتصاديا قوميا يكبح جموح الخيال السياسي الاحادي المريض والأماني الفاشية المتطرفة إلى اعتدال في عدالة موضوعية واجتماعية مقاربة ثقافية واثنية: «اعدلوا هو أقرب للتقوى»، هذه الوسطية التعبيرية أو العدالة هي المقاربة السياسية الوحيدة الممكنة لمفهوم التقوى «سياسياً» تقوى بها اواصر التعايش القومي والسلام الاجتماعي... هكذا ينزل الحزب الى استيعاب المكونات القومية بالعمل على إحداث مقاربة الجذر المشترك، وإلا فسوف يعلو الحزب فوق الحقائق الموضوعية جغرافيا وتاريخيا منحرفا صوب ذاتية تقوم على الشاذ لا القاعدة، شذوذا ايديولوجيا يشخص اخطر اعراض الامراض الحزبية بأوهامها السياسية الانتحارية نازية او فاشية تريق دماء المواطن لأجل البقاء في السلطة: «او ترق كل الدماء» هذه الأحزاب هي التداعي التاريخي لصراع السلطة الشمولية القديم: «ما أريكم إلا ما أرى». إن الطابع العقائدي للمؤشر الوطني والموجد العرقي للحركة الشعبية يجعل من الحزبين آخر من يحكم السودان الذي لا يحتاج الى تبشير ايديولوجي أو تغيير إثنولوجي، ولكن السلطة وحدها هي القادرة على تفسير افتراق الإخوة «كارامازوف» الى وطني وشعبي، وتأليف العدوين في وطني وشعبية.. ساحران تظاهرا.. هكذا يدور صراع السلطة المجرد في السودان خارج محور الهوية ومنطق الفكر القومي الرشيد.