في الحوار الذي أجراه حسين خوجلي وبُثَّ على عدد من الفضائيات المحلية والعالمية شكر الرئيس البشير الشعب السوداني ومدحه، وقال إنه شعب معلم وشعب متميز وذكي، وإنه قدم أعز ما يملك من مال وبنين وإن كل المبادرات التي تمت نابعة منه وإن الحكومة هي التي تتبناها. وأشار البشير لأهمية زرع الأمل في نفوس الناس وأن الغد سيكون أفضل من اليوم، معتبراً أن الإنقاذ تدير البلاد في ظروف استثنائية لم تكن وليدة عهد بل منذ الاستقلال وإنما صاحبته طوال تاريخه منذ عام 1955م. رصد: عبد الباسط إدريس - محمد محمود لماذا كان اختيار الفكاك من الحزب إلى رحاب البلد عبر الحوار؟.. إلى أي حد هذا الزعم صحيح؟ دعني أعود إلى بدايات الإنقاذ. إن رؤية الإنقاذ في بدايتها كانت أن الساحة السياسية السودانية موحدة حول برنامج وتختلف الأحزاب في التعبير عن هذا البرنامج، وذلك برز في انتخابات 1986 حيث طرح حزب الأمة شعاره الصحوة الإسلامية والاتحادي بالجمهورية الإسلامية والجبهة بتطبيق الشريعة الإسلامية، بالتالي برنامج واحد بمسميات مختلفة، لا خلاف حول القواعد وإنما الخلاف هو خلاف قيادات، وكان التفكير أنه إذا جمعنا هذه القيادات يمكن أن نوحد الشعب السوداني. أيضا كانت ثقتنا في الشعب السوداني أنه شعب واعٍ، لذا بدأنا مباشرة بطرح مؤتمرات حوار في بداية الإنقاذ، حيث كانت أهم القضايا هي قضية الحرب الدائرة في جنوب السودان، وأنجزنا ذلك المؤتمر حول قضايا الحرب والسلام. كان الكثير من المشفقين يرون أن الإنقاذ لم تثبّت أقدامها على الأرض، وأن ثمة أعداء في الداخل والخارج، ما يخلق فرصة للنيل منها، لكن كانت النتيجة إيجابية، حيث انضم الكثيرون للحوار من الداخل والخارج بفعل جديته، وخرجنا ببرنامج كان هادياً لمسيرتنا في البحث عن السلام في السودان. عبر هذا المدخل فكّرنا في الشأن السياسي وحول النظام السياسي كنظام مؤتمرات بحث، ويكون المؤتمر الوطني مفتوحاً لكل الناس من القاعدة إلى القمة. ولكن بعد التجربة وصلنا إلى قناعة بأنه لا يمكن أن نجمع كل الشعب السوداني في تنظيم سياسي واحد، وجاء دستور 1998م، وكان دستورا مثاليا، أُتحيت فيه حريات واسعة للتنظيمات السياسية وغير السياسية. وكان الشيخ حسن الترابي رحمه الله دائماً يحاول أن يأتي بالجديد، وأدخل كلمة التوالي، وفسرها بأن كل مجموعة توالي بعضها وتشكل تنظيما سياسيا. لكن الناس تركوا كل إيجابيات الدستور، وأثاروا دخانا كثيفا جدا حول مسألة التوالي، وحجبوا إيجابيات دستور 1998 عن الآخرين، إلى أن جاءت اتفاقية السلام وإعادة هيكلة الدولة. قناعتنا التي ترسخت أن تكون هنالك ثوابت يجمع عليها أهل السودان وأن تكون المعارضة والحكومة ملتزمتين بهذه الثوابت، لأننا نريد الخروج من دائرة أن الحكومة تبني ومعارضة تهدم، حتى يحدث عمل إيجابي تجاه الوطن والعمل على مصلحة السودان. هل وصل الرئيس إلى أن الأحزاب أصبحت لا تسع التيار الوطني العام والخروج على الأطر القديمة؟ السودان يمر الآن بمرحلة تحول كبيرة جداً وانفجار وعي. في السابق كان الناس معلبين في أطر سياسية محدودة جداً، والآن مع انتشار التعليم الأفقي والرأسي، وتطور التقنية في وسائط الاتصال العالم أصبح قرية، حالياً أصبح في جهاز داخل الجيب، انفجار الوعي قطعاً مرحلة جديدة، إذا الناس لم تتجاوب معها، سيحدث تجاوز، وإذا الجماهير تجاوزت السلطة سيحدث شرخ، وكلما توسع الشرخ بين السلطة والقاعدة سيبرز مجال العمل السالب، ويمكن دفع ثمنٍ غالٍ، والدول التي حدث فيها الربيع العربي لم تقرّب المسافة بين السلطة والجماهير وأصبحت معزولة ففوجئت بالانفجار المعرفي. أنا لست منزعجا من كثرة الأحزاب، فبعد مدة الحوار سيتعارفون ويتقاربون ويتجمّعون حول كيانات متحدة وأفكار متقاربة ولا أقول متطابقة، فالأفكار المتصارعة والمتجادلة تؤدي إلى أفكار ناضجة. وإذا نظرنا إلى مجريات الحوار في البداية والنهاية، تجد أن الكلام داخل القاعة تجاوز كل الخطوط الحمراء، وبعد كل الاختلاف في النهاية خرجوا بكم هائل من التوصيات لمرحلة القادمة، أتوقع أن يحدث تقارب وتجميع للخروج بأحزاب ذات مقدرة وتأثير في الساحة السياسية. كثيرون يرون أنك مهندس الحوار فيما يقف حزبك بعيداً.. ما حقيقة ذلك؟ لم نتخذ أي خطوة إلا بموافقة أجهزة المؤتمر الوطني، وانطلاقة الحوار الوطني نفسه ابتدرت بحوار داخلي واجتماعات كثيفة في الشهيد الزبير، وتحدثنا عن برنامج إصلاحي بدءاً بعملية إصلاح الدولة والحزب. وفي إطار النقاش قلنا إن إصلاح حزب المؤتمر الوطني نفسه لا يكفي فلا بد من عمل برنامج إصلاح للساحة السياسية، لأننا لا نريد أن ننفرد بالساحة السياسية، نرى أن نتيح للآخرين الفرصة فهذا حقهم، أن يكونوا مشاركين في حاضر ومستقبل هذا الوطن. وتم تبني ثلاثة برامج للإصلاح هي برنامج إصلاح الدولة وبرنامج إصلاح الحزب وبرنامج إصلاح الساحة السياسية والمجتمعية، بالتالي طرحنا في الأول حوارا سياسيا اجتماعيا والمؤتمر الوطني هو صاحب مبادرة الحوار الوطني. لكن إخوتنا في الأحزاب الأخرى ظنوا أننا نريد أن نجهض الحوار عبر إغراقه بمنظمات مجتمع مدني تابعة لمؤتمر الحوار، ورفضوا مشاركتها في الحوار ما يجعله مسيطرا. وبالتالي كان هناك مساران: مسار للسياسي وآخر للمجتمعي.. ومع ذلك كانت هناك متابعة مستمرة من المكتب القيادي للوطني ويأخذ تنويرا مستمرا عن تطورات الحوار وحتى نهاياته، وآخر اجتماع عقد قبل يوم من النهاية. هناك مكتب قيادي ومجلس شورى نوقش فيهما الحوار، بالتالي الحوار حوار من الحزب وليس مني لكنني أعبّر عنه. كثيرون يرون أن هذه المقررات تحتاج إلى بلد معافى، إلى أي مدى رؤيتهم سليمة؟ إن حجم الاستهداف للسودان حقيقة يعرفها كل الناس، أنه على رأس الدول المستهدفة، عند الحديث عن محور الشر كان السودان الأول، وعند الحديث عن محور الممانعين كان السودان الأول.. الآن كل الناس بمن فيهم عدد من الغربيين الصادقين بمن فيهم الأمريكان يعرفون أن الحصار والاستهداف على السودان لم يحدث على أي دولة سواء إيران أو كوبا أو كوريا، حصار اقتصادي وتآمر لم يحصل لأي بلد، لكن ربنا حافظ البلاد لأن فيه خيرين.. نحن لا نخشي من الحريات بل إن أخطر شيء على السودان منع الناس أن يتحدثوا ويعبروا (دي فرصة ينضم بعد ينتهي كلامو ما عندو قضية تاني لكن إذا ما اتكلم واتنفس يؤدي للانفجار). الحرية ليست مطلقة بل بمسؤولية، وللحفاظ على الحرية ليس بالضرورة أن تكون كالحرية بالمحنة التي حولنا، الآن نحمد الله، بل مسؤولة بحيث لا تتعدى بلا فوضى ولا تجاوز حدود وحرية الآخرين، الحرية المنضبطة بالقانون. كيف تطمئن الشارع على مؤسستي الجيش والمخابرات كمؤسسات قومية لن ينالها أي إضعاف؟ دعاة الحرية في العالم مثل أمريكا نجد لديها أقوى جيش هو الجيش الأمريكي وأقوى جهاز مخابرات هو السي آي إيه وأقوى جهاز أمن داخلي هو الإف بي آي، هذه مؤسسات دعاة الحريات.. الحرية الما محروسة بقوة تحميها هي حرية ضائعة.. الحرية تعني أن تكون آمنا في بيتك وفي عملك، الأمن لا يمكن أن يتحقق في بلد كالسودان، ولا أذيع سراً نحاول أن نبني قوات مسلحة ذات قدرة من الدرع تأمن السودان دون قتال هيبتها قوتها وقدراتها، لازم يكون في جهاز قوي البلد مستهدف. عندما زرت أحد آباء الشهداء، قال لي إن ابني الشهيد طردته سابقاً من المنزل لأنه جاسوس والتجسس في الإسلام حرام.. فقلت له الرسول كان يرسل عيونا من الصحابة ليأتوا بأخبار المشركين.. حالياً في الداخل هناك أعداء يريدون تخريب المنشآت الخدمية وتنفيذ اغتيالات.. فهل نتركهم أم نقبض عليهم. فقال لي: هذا واجبكم، فقلت له: ابنك كان أحد الذين يكشفون المخربين. لذا نحن نريد جهاز أمن لا يخيف المواطن ولكن يطمئنه، جهاز أمن قادر وليس باطشاً. ما هي رسالتك للمشفقين من عدم تنفيذ مخرجات الحوار؟ الوثيقة الوطنية ونتائج توصيات الحوار هي عهد وميثاق بيننا والشعب السوداني، وهي تفرض احترامها لأن من وضعها هو الشعب ونحن عندما طرحنا الحوار لم يكن مخرجاً وأنا دعوت الناس وقلت: الحوار لكل الناس.. إلا من أبى. ماذا تقول عن د.الترابي؟ لا يستطيع أحد أن يُنكر أنه قدم للحركة الإسلامية وقام بتوسيعها من حركة صفوية إلى حركة جماهيرية وصلت إلى السلطة، وأنا اختلفت معه ولكني لم أكرهه، ولم يحمل أي منا السلاح في وجه الآخر رغم ما حدث إبان سنوات المفاصلة، وظل التواصل بيني ود.الترابي نشطاً خلال فترة الحوار الوطني وكانت بيننا لقاءات عديدة وتشاور مستمر، في هذه اللقاءات كان رأيه واضحاً أننا على وشك الرحيل ويجب أن نعمل على توحيد إخواننا قبل موته وهو ما سمعته منه شخصياً. البعض تخوفوا من التواصل بيني والراحل الترابي خلال الفترة الأخيرة، إلا أنني أقسمت لهم أن أنني منذ أن فارقته أدعو الله له بالهداية والعافية وحسن الخاتمة، ويكفي أنني لم يحدث أن ناديته بغير يا شيخنا. ماذا عن عرمان؟ هناك صلة قرابة بيني وياسر عرمان وهو شيوعي ومنذ أن كان طالباً إن قلت له السلام عليكم يقول لك: (أنا كشيوعي سأرد عليك السلام بكذا). عرمان لديه اعتقاد أنه سيحل محل قرنق ويركب سرجه ويأتي باتفاقية سلام مماثلة لاتفاقية السلام الشمال. وحقيقة عرمان يعتقد أنه لن يأتي إلا لتنفيذ ما تبقى من السودان الجديد بعد اعتقاده أنه قد تم تنفيذ جزء منه في الجنوب. عرمان يحلم بنيفاشا جديدة وهذه طبعا غير واردة، هذا حلم (والواطة أصبحت). لماذا تحرص على الإمام الصادق المهدي؟ حرصي تجاهه سببه أن الصادق المهدي قيادي سوداني له دور في الساحة ولا يوجد إنسان مارس العمل السياسي له تجربة في الممارسة السياسية مثله حيث بدأ منذ عام 1964 وقناعتي أن الصادق لا يشبه الموقف الذي فيه الآن، ولا يعبر عنه، ولا عن خلفيته كإمام للأنصار، ولا أجد مبرراً لبقائه بالخارج، وهو أكبر من هؤلاء عقار والحلو وعرمان ووجوده معهم يضيف لهم وخصما عليه، وكنا نعتقد أنه إن حضر في اليوم الختامي لم يكن ينتقص منه شيء. أستاذي في المدرسة المتوسطة كنت أحبه جداً، كذلك صلاح أحمد إبراهيم من أقرب الشخصيات وجداني لي والتقيت فاطمة شقيقته مرة واحدة في القطينة، وعندما رأيتها قررت الذهاب إليها لتحيتها وأنا في طريقي إليها كنت أسأل نفسي كيف ستستقبلني وهل ستصافحني؟ ولكنها أخذتني بالأحضان وبكت وقالت: لي أنت أعظم رئيس وتحكم أعظم شعب.. الشيوعي واليسار عموماً هم من يعزلون أنفسهم وهناك مبادرات عديدة على المستوى الشخصي لتعزيز نقاط الالتقاء بيني والشيوعي والبعث. ما هي رسالتك لليسار العريض؟ ليس لدي أي قطيعة نفسية مع الحزب الشيوعي، ولكننا مختلفون معهم خلافاً أيديولوجياً، ولكنني أستمتع كثيراً بالجلوس مع زعيم الحزب الشيوعي الراحل محمد إبراهيم نقد، كنت أستمتع بالجلوس معه وأحبه جداً وكنت كلما جلست إليه شعرت بأنني أمام أستاذ أتعلم منه. ماذا تقول في عقلانية مولانا الميرغني؟ التقيت بالميرغني في زيارتي الرسمية الأخيرة إلى مصر وواحدة من أهدافنا المشتركة العمل على جمع أهل السودان والميرغني منذ اتفاق القاهرة ظل ملتزماً تماماً بالخط المتفق عليه سواء كان في المشاركة أو الانتخابات.. وأنا أقدر جداً الظروف الصحية التي يمر بها وعلى الرغم من ذلك حمل على نفسه كثيراً بالحضور إلى منزل سفيرنا في مصر، وفي اللقاء الأخير كان الميرغني الذي كلما التقيته وجدته حريصاً على مصلحة البلاد. ماذا أنت قائل عن رجال حولك وظلوا معك "بكري وعبد الرحيم وطه عثمان وإبراهيم أحمد عمر"؟ الذين عملوا معي عندما يقاسون بالكم، فإن أعدادهم كثيرة ليس منهم من غادر لضعف الأداء أو تناقصت خبرته، ولكنهم جميعاً كانوا أناساً ذوي خبرات عالية جداً ولكننا شعرنا بأن المؤتمر الوطني به كفاءات وخبرات يجب أن تجد حظها بحيث نتيح الفرصة للشباب لأننا إن بقينا إلى أن يتوفانا الله سنقفل عليهم الأمر وسنحرم البلاد من خبرات كثيرة جدا وقد نجح الشباب، ومن هذا الكم الذي بدأ معي في الثلاثين من يونيو عام 1989 تبقى خمسة أشخاص وهذه آخر مجموعة تبقت وبعد فترة قليلة لن تجدوا أحدا من هؤلاء الخمسة أطال الله في أعمارهم.