يقول السيد الصادق المهدي في نقده للوثيقة الدستورية (كان ينبغي أن يتم النص على أن الإسلام هو دين أغلبية السودانيين, وأن لدعاته الحق في التطلع لتطبيق تعاليمه, بشرط الالتزام بحقوق المواطنة المتساوية وحرية العقيدة لكل الأديان والالتزام بالنهج الديمقراطي) .. فلماذا ألحق المهدي بدعوته إلى النص على إسلامية الدستور شروطاً شارحة لا تتضمنها في العادة الدساتير, حيث يتميز الدستور بنصوصه القصيرة الجامعة ؟ الشروط تكشف بوضوح إقراراً من المهدي بأن النص على الإسلام في الدستور لا يفهم منه تلقائياً فهم واحد محدد, الشيء الذي يعني أن الاكتفاء بنص دستوري مثل (الإسلام دين الدولة) أو (الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع) يمكن بسبب اختلاف مفاهيم تحكيم الإسلام أن يهدد حقوق المواطنة وحرية الاعتقاد والنهج الديمقراطي, ويهدد حقوق المرأة ويحرّم الفنون ويبيح السبي والاسترقاق, ما لم تلحق بالنص الدستوري الديني ملاحق وشروح وتوضيحات وضمانات, هي في الحقيقة مبادئ ديمقراطية واضحة الدلالة يكفي تضمينها في الدستور كمبادئ دستورية أصيلة لا ملاحق تزيل اللبس والغموض عن نص دستوري مبهم . ويبرهن حرص المهدي على إضافة هذه الشروط أن في النص ثقوباً بل وفخاخاً خطيرة. وهو ما لا تكون معالجته بوضع شروط وشروح, بل بطرح فكري عميق يفند فكرة الدولة الدينية, فتسقط تلقائياً هذه المخاوف؛ لكن يبدو أن المهدي لم ينج من التباس يقع فيه العوام وكثير من المتعلمين. أما العوام فلهم فهم معمم عن (كمال) الدين ينقلهم تلقائياً إلى فهم خاطئ أن للإسلام بكماله رؤية محددة لإدارة الدولة, مثل تحديده المفصل لكيفية الصلاة. وعليه يجب على المسلم أن يلتزم بتصور الدين للدولة حتى لا يخالف أمراً دينياً. وتطابق جماعة متعلمة بين النبوة المقدسة التي تقابل تعاليمها بالتسليم, والخلافة كتجربة بشرية غير ملزمة للمسلم؛ فتجعل المطابقة بين النبوة والخلافة, الدولة الدينية بذات قداسة النبوة. ويتعامى أهل هذا الرأي عن رؤية أخطاء شنيعة صاحبت الدولة الإسلامية بما فيها دولة الخلافة, عل التعامي يحفظ قداسة مدعاة لتجربة ما بعد النبوة. يكشف هذا الخلط أن هؤلاء المتعلمين المتوهمين وجود (مثال) واحد للحكم هم ضحية لمنهج فكري غير صحيح. وقد كانت ومازالت المناهج المدرسية سبباً في تكريس هذا الخطأ حيث يتلقى التلميذ درس السيرة النبوية بالتقديس المستحق, ثم ينتقل لدرس الخلافة بذات الفهم وكأن الخلافة تحتفظ بقداسة وعصمة النبوة. استغلت نخبة سياسية الارتباك الفكري المشار إليه فعمدت إلى الترويج لهذه المفاهيم المغلوطة حتى تضفي على برنامجها الحزبي العادي قداسة دينية, تحصنه من المناقشة والتقييم, و(تفرضه) كأمر إلهي؛ إلا أنني لا أركز في هذا المقال على هذه الفئة الأخيرة, بل على الأولى والثانية باعتبارهم ضحايا ضحالة فكرية يمكن تصحيحها, وهي حالة لا تتلبس الصادق المهدي وحده, فقد ارتبطت الدعوة للدستور الإسلامي بتنظيمات سياسية مصنفة ضمن قوى الوسط, بما فيها الحزب الوطني الاتحادي الذي صُنف بعد استقلاله عن الطائفتين كمعبّر عن تيار الوسط المستنير؛ لكنه لم يكن بالتفوق الفكري الذي يؤهله لإدراك خطر الدعوة المعممة لدولة إسلامية. افتقاد قوى ورموز وسطية عديدة غير الصادق المهدي للعمق الفكري جعل الدعوة للدولة الدينية تبدو واجباً دينياً. وعليه أبقت جماعات الإسلام السياسي على هذه الدعوة حتى تبعد عن الدين ما تتوهمه نقصاً, واعتمدت خطة إبقاء واستمرارية الدعوة للدولة الدينية, على ظهور جماعة جديدة كلما فشلت تجربة للإسلام السياسي, فتتهم الجديدة أصحاب التجربة الفاشلة بأنهم قد شوهوا الإسلام وأن الجدد هم أصحاب الفهم الصحيح للدولة الإسلامية. وقد نجحت هذه الخطة القائمة على منهج اعتذاري أو تبريري في الإبقاء على فكرة وجوب المناداة بدولة الإسلام, رغم أن أصحاب الفكرة لا يملكون لهذه الدولة تصوراً محدداً. هذا التيه الفكري يضاعف مسؤولية قوى الاستنارة في بث الوعي حول حقيقة الدولة الدينية. وقد يكون أنسب المداخل للتعريف بأسباب رفض الدولة الدينية هو أن هذه الدولة لا تُرفض لما تحمله من احتمالات التمييز السلبي لغير المسلمين في الوطن فحسب, بل ترفض ولو كان كل سكان السودان مسلمين, ذلك لأن الدولة كفكرة سياسية تتعدد أشكالها وتختلف مضامينها. هذه الحقيقة تحتم وجود مفاهيم, ومن ثم تيارات وتنظيمات مختلفة في المجتمع ولو كان كله من المسلمين. ولا يحق لأي من هذه التيارات أن يصف نفسه بأنه إسلامي ولو أكد على كل المبادئ الديمقراطية؛ فغيره ممن يصف نفسه إسلامياً أيضاً يرى تعارضاً بين الإسلام والديمقراطية, وثالث يوائم بين الإسلام والاشتراكية ورابع يرى الاشتراكية كفراً, وخامس يرى أن تحريم الفنون وسبي النساء واسترقاق الرجال من أركان دولة الإسلام المجاهدة .. لذا يصبح ضرورياً عدم إلحاق الصفة الإسلامية بالدولة أو ببرنامج الحزب لأنها لا تفيد معنى محدداً. فإذا كانت تعني المبادئ الديمقراطية فإن ذكر الإسلام يكون تزيُداً. وترفض صراحة أية دعوة للنص على الإسلام في الدستور إذا قصد به دولة الدكتاتورية أو دولة السبي والاسترقاق. وعليه يصبح من الضروري إبعاد مصطلح لا يفيد إقحامه غير البلبلة والإرباك, والاكتفاء بالنصوص الديمقراطية الصريحة الواضحة الكافية, وتجنب مصطلح الإسلام حمّال الأوجه, بدون الوقوع في فخ مصطلح العلمانية المختلف على تعريفه.