من أجمل مشاهد ثورة ديسمبر المجيدة (مشهد اعتصام القيادة) بزخمه وألقه وبريقه. كنت أزور ساحة الاعتصام كلّما حانت لي فُرصة، في إحدى زياراتي لمقر الاعتصام، قبل رمضان بأيامٍ، كُنت في معية العمدة عاصم قدورة والأحباب الأمين العربي ورجب وأيمن علي حسين، وبعد أن اقتربنا من حاجز التفتيش الكائن قبل الفرقة السابعة، طالعنا هتاف (ارفع يدك فوق.. التفتيش بالذوق).. الهتاف المُحبّب إلى نفسي مع هتاف (حا تسقط وحا نعرس… حا نعرس كنداكة). المُهم، اصطففنا ورفعنا أيدينا إلى أعلى.. العُمدة أولاً بعده أيمن.. ثم الأمين.. ثم رجب.. ثم شخصي. العُمدة مُداعباً شباب التفتيش: (أنا عُمدة شمبات.. العُمدة بتفتِّش؟). داعبه الشباب: (الرئيس بتفتش هنا) ضحكنا جميعاً ومرّروا العُمدة.. أيمن.. الأمين ورجب.. عندما جاء دوري وقبل التفتيش طالبني شباب التفتيش ب(البطاقة). أخرجت بطاقتي وقدمتها لهم ومرّروني بكل احترامٍ وتهذيبٍ.. العُمدة ضحك عليّ قائلاً: (ناس التفتيش شكُّوا فيك عشان كده طلبوا البطاقة). كانت المرة الوحيدة التي يطلب فيها مني شباب التفتيش البطاقة في مقر الاعتصام، وهذه الزيارة اعتز بها جداً دُون كل زياراتي لمقر الاعتصام لأنّني طُولبت بإبراز البطاقة.. مشهد التفتيش يمنح رمزية قوية لمشهد الاعتصام، رمزية باذخة الجمال. شخصياً، كل ما أمر عبر تفتيش في مقر الاعتصام كان ينتابني شُعُورٌ بدولة جديدة ذات فكرٍ جديدٍ، ذات مضمون حديث.. جهد وعرق في نهارٍ قائظٍ بتجرُّدٍ وانسجامٍ دونما سَابق معرفةٍ بين الشباب فقط (مظلة وطن). تفتيش السفيرين: الأمريكي والهولندية، وسفير الاتحاد الأوروبي حمل دلالات (ثقافة ثورة) تُؤسِّس لعدالة في فرض هيبة القانون من السفير إلى الغفير أو هكذا يقول الشباب عبر رمزية التفتيش (هذه دولتنا التي نُريد). (حواجز التفتيش) تُعتبر (اللوحة الرمزية الأبرز) في (قطار الثورة) الماضي إلى مُنتهاه بقوة. مشهد التفتيش في حدِّ ذاته مُدعاة لتقارير إعلامية مرئية تُوثّق لهذه المرحلة من تاريخ السودان. هذا الجيل الشاب حُظي بما لم يُحظَ به جيل الثورتين السابقين في أكتوبر وأبريل.. فعبارات مثل (استخدم الساتر) التي استخدمها الجيش كثيراً من أعلى التاتشر وهو يستعد لإطلاق الذخيرة الحيّة ضد المُتطفلين الذين حاولوا فض الاعتصام في بواكير أيّامه، هذه العبارة يعقبها انبطاح الجميع على الأرض رجالاً ونساءً وشباباً وأطفالاً ليبدأ بعدها تَبادُل إطلاق ذخيرة حيّة كثيفة تصيب في مقتلٍ.. ومشاهد الفيديو واللايف تنقل لنا ثباتاً وعزيمة وإصراراً وتلاحُماً كبيراً.. هذا المشهد شكّل حجر زاوية في مشهد إصرار الثُّوّار، حيث لم يعد إطلاق الذخيرة الحيّة مُدعاةً لترك الشوارع والاختباء في البيوت.. هذا المشهد لم يُحظَ به جيل الثورتين السّابقين، فهل من شباب يقوم بتجميع كل فيديوهات إطلاق الذخيرة الحيّة واستخدام الساتر أمام القيادة العامة ويضعها في فيديو واحد مُؤرّخ؟ هذا تاريخ وفعل صناعة ثورة يكون معيناً ومُلهماً للأجيال القادمة إذا تسلّط عليها حاكمٌ أو تَفَرعَن عليها مَسؤولٌ..! إنّها ماركة مُسَجّلة باسم (ثورة ديسمبر المجيدة)