ما من شك أن القرار الأمريكي الأخير كان إيجابيا للخرطوم إذ رحبت الخارجية السودانية بالقرار الذي أصدره الرئيس الأمريكي دونالد ترمب والقاضي بإزالة اسم السودان من قائمة الدول التي تم تقييد دخول مواطنيها إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، وأبدت أملها وحرصها على إزالة أي عقبات أمام التطبيع الكامل للعلاقات بين البلدين بما يحقق المصالح المشتركة لشعبي البلدين. وقال الناطق الرسمي باسم الخارجية قريب الله الخضر في بيان صحفي، إن الخارجية إذ ترحب بهذا القرار تؤكد ثقتها في كفاءة الأجهزة السودانية المختصة وقدرتها على مراقبة حركة المسافرين عبر المطارات السودانية بما يتوفر لديها من خبرة، ومعدات، وصلات، تمكنها من التدقيق وفحص هويات المسافرين وتبادل المعلومات والتعاون مع كل الأجهزة الرصيفة في الدول الصديقة. وأكد الخضر أن هذه الخطوة تمثل تطوراً إيجابياً مهماً في مسيرة العلاقات الثنائية بين السودان والولاياتالمتحدةالأمريكية، ونتاجاً طبيعياً لحوار طويل وصريح وجهود مشتركة قامت بها العديد من المؤسسات المختصة من الجانبين وتعاون وثيق بين البلدين في قضايا دولية وإقليمية محل اهتمام مشترك. يقول النائب البرلماني أمين دائرة أوروبا وأمريكا بمجلس الصداقة الشعبية، محمد المعتصم حاكم، إن ما حدث ليس من قبيل الصدفة وإنما نتاج جهد دبلوماسي كبير قامت به السفارة السودانية في واشنطن. ويشير حاكم إلى أن القائم بالأعمال السوداني في واشنطن معاوية عثمان خالد شكل لجنة منذ إصدار ترمب قرار حظر دخول السودانيين الأراضي الأمريكية، وطوال الفترة الماضية قامت اللجنة المكونة برئاسة نائب السفير الوليد السيد، وثلاثة من السكرتيرين الأوائل (أسعد، بحر الدين، ورقية) بعمل مكثف مع السلطات الأمريكية ذات الصلة تكلل برفع السودان من القائمة. ويشير حاكم إلى أن القرار يمثل خطوة إيجابية تدعم رفع العقوبات نهائياً عن السودان، وهو ما يمثل نصرا للسودان حكومة وشعبا. من جانبه يرى المحلل السياسي د.الحاج حمد أن القرار الأخير لإدارة ترمب يعكس حجم التعاون بين المؤسسات الأمنية في البلدين. وهذا يظهر في الأوامر الرئاسية التي بدأت تظهر منذ يناير الماضي. ومنذ يناير الماضي تشير العديد من المؤشرات إلى أن قرار رفع العقوبات الاقتصادية على السودان بات وشيكا، فقد أوصى وزير الخارجية الأمريكي ريك تيلرسون بتأييدهم رفع العقوبات الاقتصادية معتبرين أن التعاون مع الخرطوم أمر حيوي لمصالح أمريكا الاستراتيجية، محذرين من حدوث نكسة في حال عدم وفاء واشنطن بتعهداتها. ومنذ يوليو الماضي وبعد قرار ترمب تمديد أجل البت في رفع العقوبات تزايدت الزيارات لمسؤولين أمريكيين رفيعي المستوى للسودان (أفريكوم، والمعونة الأمريكية)، بينما ظلت تقارير المؤسسات الأمريكية إيجابية بحق الخرطوم، وأبرزها توصيات ورشة أتلانتك التي مضت نحو رفع العقوبات وعدم جدواها في التعامل مع الخرطوم. وفي الأسبوع الماضي قررت وزيرة الأمن الداخلي الأمريكية المكلفة الين ديوك منح السودانيين الذين هم تحت قانون الحماية المؤقتة تمديداً لتوفيق أوضاعهم ينتهي في الثاني نوفمبر 2018م وجاءت الخطوة إنفاذا لقرار إنهاء وضعية الحماية المؤقتة بالنسبة للسودان الذي كان يندرج تحت بنود القانون الأمريكي الذي يمنح الإقامة والحماية المؤقتة لرعايا البلدان الذين لا يستطيعون الرجوع إليها لعدم ضمان سلامتهم بها، إما لأسباب أمنية أو إنسانية أو كوارث أو أي أسباب أخرى ضمن دول عدّة تشمل بجانب السودان، الصومال وسوريا واليمن ودولاً أخرى. واعتبر المراقبون أن الخطوة تعتبر تمهيدية لرفع العقوبات الأمريكية بالكامل عن السودان. وقد قررت وزارة الأمن الداخلي الأمريكية أنه وبعد مراجعة الأوضاع بالنسبة للسودان وبالتشاور مع الجهات الأمريكية الأخرى المختصة فإن قانون الحماية المؤقتة أصبح لا ينطبق على السودان. في المقابل تعلو أصوات داخل المعسكر الأمريكي بالإبقاء على السودان في قوائم الحظر، ويقول أصحاب هذا الرأي بعدم جدوى تقديم الجزرات لصالح الحكومة السودانية التي لا يمكن التنبؤ بأفعالها المستقبلية - على حد تعبيرهم؛ إلا أن ذات اللوبيات أشارت إلى أن العقوبات الاقتصادية لم تكن ذات جدوى وأضرت بالشعب أكثر من حكومته، الأمر الذي جعلها لا تمانع كثيرا في رفع العقوبات الاقتصادية مقابل فرض نهج جديد من العقوبات أكثر فاعلية لتطويع سلوك الخرطوم، فضلاً عن الإبقاء على السودان في لائحة الإرهاب لحين التوصل لتفاهمات جديدة، مع دفع ذات مجموعات الضغط بمقترحات بإضافة مسار سادس يتعلق بالحريات والتحول الديمقراطي. 2 لماذا القرار؟ وماذا وراءه؟ تدخل الإجراءات الجديدة حيز التنفيذ بدءا من 18 أكتوبر، بناءً على مراجعة بعد طعون في المحاكم على حظر السفر الأصلي الذي أصدره ترمب وأثار غضبا دوليا. وبعد قليل من صدور الإعلان قال ترمب في تغريدة على تويتر "جعل أمريكا آمنة هو الأولوية رقم واحد. لن نُدخِلَ إلى بلادنا أولئك الذين لا يمكننا فحصهم بسلام". في السياق، قال البيت الأبيض إن الإجراءات الأمنية الجديدة تحدد لأول مرة في التاريخ الحد الأدنى من متطلبات التعاون الدولي لدعم عملية التدقيق لمنح الهجرة والتأشيرات الأمريكية. ولفت السكرتير الصحفي للبيت الأبيض في بيان صحفي تلقته (السوداني)، إلى أن هذه خطوة حاسمة نحو إنشاء نظام للهجرة يحمي سلامة الأمريكيين وأمنهم في عصر الإرهاب الخطير والجريمة العابرة للحدود. وقد حددت وزارة الأمن القومي بالتعاون مع الوزارات والوكالات التنفيذية الأخرى متطلبات جديدة قائمة على المعايير الدولية المقبولة وأفضل الممارسات وقرارات الخبراء بشأن الحد الأدنى للمعلومات التي تحتاج الولاياتالمتحدة إليها للتحقق من هوية المسافرين ومنع الغش وضمان عدم تمثيل الأفراد تهديداً للأمن القومي أو السلامة العامة. ويشير البيان إلى أن مختلف البلدان تتشارك بمسؤولية في منع الهجمات الإرهابية والجريمة العابرة للحدود والاحتيال في طلبات الهجرة. ووفقاً للبند 2 من الأمر التنفيذي رقم 13780، إذا لم تستوفِ البلدان الأجنبية متطلبات التدقيق في المسافرين ومتطلبات تقاسم المعلومات التي تحددها الولاياتالمتحدة، قد لا يسمح لمواطنيها بدخول الولاياتالمتحدة أو قد يواجهون قيوداً أخرى على السفر، مع استثناءات محددة. ومضى البيت الأبيض ليلفت إلى أن معظم بلدان العالم الآن تلبي الحد الأدنى الجديد، وهو عنصر مهم لضمان الأمن الأمريكي، وأضاف: "شاركت حكومة الولاياتالمتحدة المتطلبات الجديدة مع الحكومات الأجنبية في يوليو، وحذرت من أنه سيكون لعدم الامتثال عواقب، وتم منح هذه البلدان مهلة 50 يوماً للعمل مع الولاياتالمتحدة على إدخال تحسينات. ورداً على ذلك، قامت عدد من الدول غير الممتثلة بزيادة تبادل المعلومات مع الولاياتالمتحدة في ما يتعلق بالتهديدات الإرهابية، أو تعزيز أمن وثائق السفر، أو تحسين تقارير الإبلاغ عن جوازات السفر المفقودة والمسروقة، فيما لم تمتثل بعض البلدان بعد للحد الأدنى الجديد أو ظلت غير ممتثلة له عمداً". وبناءً على ذلك، أوصى وزير الأمن القومي بوضع قيود على السفر من أجل الحفاظ على سلامة أمريكا وتشجيع البلدان على الوفاء بمتطلبات الحد الأدنى، ووافق الرئيس على ذلك، وقال البيت الأبيض: "ستساعد هذه القيود في منع الإرهابيين والمجرمين المحتملين من الوصول إلى شواطئنا. وسوف تَفرض قيود التأشيرات هذه ضغطاً على الحكومات الأجنبية للوفاء بالتزاماتها من خلال تعزيز الأمن وتقاسم المعلومات الأساسية مع الولاياتالمتحدة". وتشمل البلدان التي لا تلتزم بشكل كافٍ بالمتطلبات الجديدة: تشاد وإيران وليبيا وكوريا الشمالية وسوريا وفنزويلا واليمن. وقد قرر الرئيس أيضاً أنه في حين لم يستوفِ العراق الحد الأدنى، فإنّ القيود المفروضة على الدخول غير مبررة بموجب إعلان 24 سبتمبر. غير أن وزير الأمن القومي يوصي بأن يخضع مواطنو العراق الذين يسافرون إلى الولاياتالمتحدة لمزيد من التدقيق. وبالإضافة إلى ذلك، قرر الرئيس ووزير الأمن القومي أنه في حين أن الصومال يفي عموماً بالحد الأدنى من متطلبات تقاسم المعلومات، فإنه يمثل ظروفاً خاصة تستدعي فرض قيود محددة وتعزيزات أمنية لحماية الشعب الأمريكي. 3 البيت الأبيض والكونغرس.. صراع المباني والمعاني الآباء المؤسسون لأمريكا جعلوا من مبنى الكونغرس أكبر من البيت الأبيض بقصد إعطاء رمزية لسلطة أكبر للشعب، وفي ظل صراع الجمهوريين والديمقراطيين على السلطة في واشنطن خلال الثلاثة عقود الماضية عانت الخرطوم الأمرَّيْن في تعاطيها مع واشنطن، إلا أن فجرها بدأ ينبلج في يناير الماضي. ويترقب السودان قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترمب في الثاني عشر من أكتوبر القادم للبت في رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على السودان منذ العام 1997، والتي بموجبها تم تجميد الأصول المالية السودانية، ومنع تصدير التكنولوجيا الأمريكية له، وألزمت الشركات الأمريكية، والمواطنين الأمريكيين، بعدم الاستثمار والتعاون الاقتصادي مع السودان، وكما هو معروف فإنَّ الرئيس الأمريكي يُمكنه إزالة اسم أية دولة من قائمة الإرهاب دون حاجة للرجوع للكونغرس ذلك لأنَّ وضع اسم البلد المُعيَّن في القائمة لا يصدر بتشريع وإنما تقوم به وزارة الخارجية. وهنا يقول د.الحاج حمد: "المؤشرات الحالية تشير إلى أن العقوبات الاقتصادية بحق السودان سيتم إلغاؤها إو تليينها، إلا أن العقوبات المفروضة من قِبَلِ الكونغرس ستظل باقية". وأصدر الكونغرس في العام 2002 "قانون سلام السودان" الذي ربط العقوبات الأمريكية بتقدم المفاوضات مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، وفي عام 2006 فرض الكونغرس عقوبات إضافية ضد "الأشخاص المسؤولين عن الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية". صحيح أن آليات صنع القرار في أمريكا ترتبط كذلك بعمليات "مساومات" معروفة يُمكن أن تحدث بين الإدارة والكونغرس بحيث يمكن أن يقدّم أحد الطرفين تنازلات في قضية معينة مقابل تنازلات من الطرف الآخر في قضية أخرى, وهذا هو الأمر الذي قد يُساعد الإدارة في رفع عقوبات الكونغرس المفروضة على السودان، إن هي أرادت ذلك. فيما يقول المحلل السياسي د.الحاج حمد إن واشنطن لن تقوم برفع كل العقوبات على السودان. ويشير حمد إلى أن إلغاء قانون "سلام السودان" والعقوبات الإضافية التي صدرت في العام 2006، سيبقى أمراً مرتبطاً بضمان وقوع إصلاح ديموقراطي كبير وتحسن واضح في أوضاع الحريات وحقوق الإنسان في السودان, وهو الأمر الذي لن تستطيع الإدارة الأمريكية تجاوزه إلا باتفاق مع الكونغرس لأن العقوبات الصادرة من الأخير لا يمكن رفعها إلا بتشريع منه، وليس في استطاعة الرئيس إلغاؤها بأمر تنفيذي، إلا أنه في مقابل ذلك ستتم إزالة العقوبات الصادرة بأوامر رئاسية وهو ما سيُسهِّل تعاون المؤسسات الأمنية مع نظيراتها في الخرطوم. غير أن المبعوث الأمريكي السابق برنستون ليمان، لفت في حوار سابق إلى أن رفع العقوبات الاقتصادية سيُعطي نتائج أقل فاعلية للخرطوم، مضيفا: "على الرغم من أن رفع العقوبات سيفتح الطريق للتجارة وينعش الاهتمام بالاستثمار، إلا أنه في ظل وجود عقوبات أخرى مطبقة، وبالنظر إلى استمرار وجود السودان على لائحة الدول الداعمة للإرهاب، فإنَّه من غير المُرجَّح أن تحدث استثمارات طويلة الأجل، وستظل المؤسسات المالية تنظر بتحفظ، بينما يحتاج المستثمرون إلى ضمانات طويلة الأمد، كما أن إعفاء الديون لن يتم النظر فيه". وعلى كل حال، يمكن القول إن القضية ليست متعلقة فقط بالعقوبات الصادرة عن الإدارة الأمريكية، ولكنها مرتبطة بشدة بعقوبات الكونغرس, وبقائمة وزارة الخارجية التي تضم الدول (الراعية للإرهاب) من وجهة نظر أمريكا وهذه الأخيرة تمثل ناظماً مركزياً في أن تكون العلاقات بين الخرطوموواشنطن بشكل طبيعي خاصة فيما يتعلق بملفات الاستثمارات والدين الخارجي.