وجدته يلملم أوراقه ومتعلقاته الخاصة، متاهباً لمغادرة كرسي رئاسة تحرير صحيفة الانتباهة بعد ثلاثة وثلاثين عاماً قضاها في مهنة الصحافة متنقلاً بين الصحف السودانية، عقب الاستقالة التي دفع بها النور أحمد النور من رئاسة تحرير الصحيفة على خلفية ضجة كبرى أحدثها مقال صحفي حمل عبارة عنصرية، فطرحت عليه عدداً من الأسئلة. كيف حدث ذلك الخطأ الذي آثار الضجة؟ الأخطاء في الصحافة العالمية والعربية مألوفة، وبعض الصحف لديها ركن يومي لتصحيح الأخطاء سواء كان ذلك في المواد التحريرية أو مواد الرأي، وبالتالي الأخطاء في الصحف طبيعية خاصة وأنها تصدر يومياً وجل من لا يخطئ. كيف يمكن أن تصف لنا مثل هذا الخطأ ؟ طبعاً كل صحيفة لديها ما يسمى (بكلب الحراسة) وأحياناً تحدث أخطاء وتمر من تحت أنف الرقيب الداخلي، بعض مثل هذه القضايا وهذا أمر مألوف ومعروف وحتى النيويورك تايمز والقاردين تعتذر عن الأخطاء وهي صحف ليست كصحفنا، ولديها صحفيين مقتدرين ومؤسسات مقتدرة ومحررين مقتدرين ورغم ذلك تفوت عليهم احياناً مثل بعض القضايا ويعتذرون عنها، ودائماً الاخطاء التي تحدث في العمل الصحفى تجبر بالاعتذار والتصويب وأحياناً بالقضاء عبر العدالة خاصة ان كان الضرر شخصي ولكن الاخطاء في الحق العام لا بد من معالجتها بالتصحيح والاعتذار . ماهي الخطوات التى قمت بها فور وقوع هذا الخطأ ؟ أولاً قدمنا اعتذاراً باسم إدارة التحرير ووعدنا بالتحقيق والمحاسبة في التقصير، ثم بعد ذلك صدر اعتذار وتوضيح من رئيس مجلس الإدارة وهو الناشر وشكل أيضاً لجنة تحقيق، وأسرة الكاتب نفسه الحاج علي صالح أصدرت اعتذاراً أيضاً، وكتبت عموداً اعتذرت فيه ووعدنا بوضع ضوابط تمنع تسرب مثل هذه الأخطاء مستقبلاً . هناك حديث كثيف عن أن صحيفة الانتباهة عبر باب الرأي تحمل أقلام تعبر عن مضامين عنصرية وردوها لكون الصحيفة تأسست على ذلك ؟ طبعاً هذا الفهم اوالصورة الذهنية تشكلت ابان انفصال جنوب السودان وكانت الانتباهة قائدة حملة لانها كانت تعبر في ذلك الوقت عن رأي منبر السلام العادل المتبني لخطة انفصال الجنوب وكان الناشر هو الطيب مصطفى، ولذلك حدث خلط، هل هذا هو موقف الصحيفة ام موقف الطيب مصطفى وكذلك كثير من كتاب منبر السلام الذين يدعون للانفصال كانوا يكتبون في الصحيفة وكان هناك عدد من المقالات تدعو لانفصال الجنوب ، مما شكل ذهنية أن هذه الصحيفة لديها توجه عنصري، ورغم أن الطيب مصطفى غادر الصحيفة ولم يكن مالكاً لها ولكن هذه الصورة الذهنية لم تتغير خاصة من قبل بعض الذين كانت لهم صراعات سياسية مع الطيب مصطفى . استمرار ذلك ألا يعنى أنكم لم تحدثوا أي تغيير في السياسة التحريرية عقب انتهاء ملكية الطيب مصطفى للصحيفة واحتفظتم بذات الكتاب المتهمين بإثارة العنصرية؟ طبعاً حدث تغيير في إدارة وملكية الصحيفة والطيب مصطفى غادرها وأنشأ جريدة الصيحة ولم يعد الكتاب الذين يكتبون في الصحيفة هم نفس الكتاب الذين كانوا يؤيدون انفصال جنوب السودان، وأعتقد أن هذه السياسة هي التى جعلت الصحيفة تظل متفوقة وفيها روح المهنية والالتزام بمواثيق الشرف الصحفي ولم يحدث أن تمت إدانتها أمام مجلس الصحافة أو أمام القضاء في أي قضية تتعلق بعنصرية او تفرقة، بل بالعكس نحن كنا ندعو لتعزيز الوحدة الوطنية والتعايش السلمي والتسامح ، ولكن أعتقد أن المقال الأخير ونسبة لأن أول من قاد الحملة بعده هو ياسر عرمان الذي أثار هذه القضية في جوبا وفي مفاوضات السلام، حيث أراد استثمار هذه القضية سياسياً لتصفية حسابات مع الطيب مصطفى ولذلك البيان الذي أصدره عرمان كان يربط بين الطيب مصطفى وبين هذا المقال، رغم عدم وجود رابط أو صلة عضوية للطيب مصطفى بالصحيفة وإنما هو فقط كاتب ولا يملك أي أسهم فيها. كيف نظرت لردة فعل الشارع ومواقع التواصل الاجتماعي وحتى الحكومة ؟ رصدت أول بيان صدر وأثار هذه القضية من ياسر عرمان في مفاوضات جوبا ، وتم رفع شكوى لعضو الوفد الحكومي الفريق أول شمس الدين كباشي ، ثم بيان لنساء السودان الجديد ومن بعض الناشطين الذين لديهم مواقف سياسية معروفة، وهم الذين أثاروا هذه القضية لكن المجتمع السوداني لم يهتم كثيراً بها لانه يعرف أن مقال الكاتب لا يمثل رأي الصحيفة او سياستها التحريرية ، لذلك الاهتمام كان من ناشطين وسياسيين . لماذا قررت الاستقالة بعد كل الاعتذارات التي قلت بها؟ لأنني أتحمل المسؤولية الأخلاقية ، وطبعاً لا يوجد أي رئيس تحرير يقرأ الصحيفة من الألف للياء، ولكنه يفوض سلطاته ويتقاسم مسؤولياته ولكن المسؤولية الأخلاقية والقانونية هي مسؤولية رئيس التحرير سواء كان ذلك في قانون الصحافة أو القانون الجنائي وميثاق الشرف الصحفي وبالتالي أنا اتحمل المسؤولية الأخلاقية وهذا موقف أخلاقي أيضاً أن تقدم استقالة عندما يحدث خطأ كبير في صحيفتك. الاستقالة هل جاءت بعد ضغوط سياسية أو من مجلس الإدارة؟ لا لم تحدث أي ضغوط وهذه مبادرة منى وأريد أن أرسي أدباً جديداً إن الشخص عندما يخطئ مهما كانت مسؤوليته إن كان رئيس تحرير أو وزير أو مسؤول عن أي مؤسسة ينبغي إذا وقع خطأ أن يتحمل المسؤولية الأخلاقية ويفترض أن نرسى في ثقافتنا السودانية هذا الأدب وإذا كان هذا الأدب تمدد وأصبح ثقافة عامة أعتقد سيكون مفيداً جداً . هل حققت معك النيابة ؟ لا لم تستدعني النيابة حتى الآن في هذه القضية . هل تم فتح بلاغات ؟ كنت في نيابة الصحافة في بلاغ آخر ولم يصل أي بلاغ حتى تاريخ الأمس (الخميس). ماهو موقف ناشر الصحيفة وهل قبلت الاستقالة أم أنها قيد النقاش؟ تم قبولها، واجتمع مجلس الإدارة وناقش الأمر وأنا أصررت على الاستقالة وقبل الأمر وكلف الأخ الزميل أحمد يوسف التاي برئاسة التحرير. ماهي الخطوة القادمة بالنسبة لك؟ أنا أفكر بهدوء دون استعجال في الخطوات القادمة، خاصة وأنني عملت في تسع صحف خلال الثلاثين عاماً الماضية، الآن أريد الانتقال لمؤسسة إعلامية جديدة لننقل تجربة جديدة. العودة للصحافة الورقية هل من بين خياراتك؟ لا أعتقد أن نفكر في منصة إعلامية جديدة.. الصحف الورقية بسبب الظروف الاقتصادية وظروف المواطنين ستشهد تراجعاً في المبيعات، وهو ما أشار إليه ناشر صحيفة المجهر الأخ الهندي أن الصحف الآن تغرق والصحف في هذه الظروف الضاغطة في السودان ليست مشجعة للاستثمار وليست مشجعة للشخص أن يشغل فيها منصباً . كم قضيت من مدة في العمل الصحفي؟ أنا تخرجت في الجامعة عام 1988م ولكن عملت بالصحافة منذ عام 1987 في مدة متصلة حتى الآن . بعد كل هذه الفترة كيف ترى الصحافة وأنت تختم حياتك المهنية فيها بالاستقالة؟ الصحافة للأسف شهدت فترات تطور وفيها شباب نابهين ولكن ينقص هؤلاء الشباب بناء القدرات والتدريب والصقل ومنحهم الثقة، وأيضاً الضيق الاقتصادي في الصحف دفع كثيراً من الصحفيين النابهين للزهد في العمل الصحفي، وأعتقد أن المجتمع الصحفي الآن بحاجة للتماسك لأنه متشظي وهذا ما ينعكس على وضع الصحفي الاقتصادي والاجتماعي وينبغي أن يحدث تماسك في المجتمع الصحفي وبناء قدرات للصحفيين لأن كثيراً من صحفنا الآن تفتقر للكثير من الكودار بعد أن توزع الكثير من الكوادر الجيدة على كثير من المؤسسات الصحفية ولذلك الصحف الآن تعاني من مشكلة مهنية ومشكلة في شح المعلومات، وهناك مشكلة في تدفق المعلومات والصحف الآن ليست المرجع الوحيد للمواطن ورغم أن الصحف ما تزال لديها مصداقية جيدة، إلا أن هناك الكثير من مصادر المعلومات الأخرى ولذلك هي ليست المصدر الوحيد للمعلومات بالنسبة للمواطنين الذين يرى بعضهم أن الصحف ليست بها معلومات كافية ومشبعة ولذلك يلجأ في كثير من الاحيان لمواقع التواصل الاجتماعي للحصول على معلومات ينبغي أن تنشر في الصحف . هل ترى أن الصحافة قادرة على الصمود والاستمرار؟ أتوقع أن يشهد هذا العام سقوط عدد كبير من الصحف بسبب الأوضاع الاقتصادية وما لم تتحسن هذه الأوضاع ستشهد الصحف تراجعاً مستمراً وستخرج كثير منها وستجد الصحف الجديدة أيضاً مشقة كبيرة بأن تجد لها مكاناً في صدارة التوزيع، وأن تحصل على قدر أكبر من المبيعات بسبب الظروف الاقتصادية.