لمطالب كثيرة ولم نر شيئاً يتحقق وشعرنا بالاطمئنان بعد تعيين لم يكُن الطريق نحو الحادي عشر من إبريل 2019م، طريقًا محفوفًا بالهتافات فقط نحو إسقاط نظام الثلاثين من يونيو، بل كان طريقًا عبّدتهُ أرواح الشُهداء، أملًا في تحرير وطنٍ من زنازنين القهر والظلم، وكان الفاتح عمر النمير أحدّ هؤلاء الشهداء. كان من السهل الوصول إلى منزله بمدينةِ أم درمان، فكلُ من في الحي يعلم أين يقعُ (بيتُ الشهيد)، وإن ضللت الطريق، ترشدك الكتابات عنهُ على جدران منزله تخبرك أنهُ خرج من هنا شهيدٌ للوطن. تقول والدتهُ ماريا الطيب في حديثها ل(السوداني): أنا والدة الشهيد الفاتح عمر النمير، شهيد الثورة، شهيد الوطن أُصيب في موكب ال17 من يناير بميدان بري الدرايسة، اتصلت ذلك اليوم على هاتفه ولم يرد وكانت المرةُ الأولى التي لا يعود لي فيها الفاتح (بمكالمة) عقب اتصالي به. وأضافت: استبد بي القلق تصفحت (الفيس بوك) بحثًا عن أيّ خبر، وقتها كان أول ما وجدتهُ فيديو يظهر عليه إصابة بالغة لأحد الشباب، قلتُ لأُخته شيماء (شوفي الولد دة انضرب كيف، الله يصبر أمه). لاحقًا، تقول ماريا أن الشاب الذي كان في الفيديو هو ابنها الفاتح. تُغالب ماريا دموعها وهي تتحدث عن الفاتح، تلزم الصمت لبرهةٍ من الوقت، تلتقط أنفاسها ويخرج صوتها خافتًا كأنهُ قادم من خلف أضلعها. بدأت حديثها ولكن ليس بتاريخ ميلاده، بل بتاريخ وفاته وتقول: أصيب الفاتح في ميدان بري الدرايسة، الثالثة من عصر يوم ال17 من يناير 2019م، نُقل على إثر تلك الإصابة لمستشفى رويال كير، ثم دخل في غيبوبةٍ لأربعة أيام، ليفارق الحياة بعدها، وكان وقتها على أعتاب التخرج في جامعة السودان، هندسة الميكانيكا. الفاتح النمير ولد الفاتح عمر النمير في العام 1994م تقول عنهُ والدتهُ ماريا أنهُ كان متوفقًا في دراسته منذ الصغر، طموحا هميما يحب الدراسة، ويهوى القراءة منذُ صغره، لا يخاف، يحمل هم الناس والبلد منذُ صغره، إلى جانب عمله في العديد من المبادرات الخيرية. وتقول ماريا في حديثها ل(السوداني) حول مشاركة الفاتح في المواكب، إنهُ لم يتخلف عن أيّ موكب منذُ بداية الثورة سوى موكبٍ واحد عقب موكب أم درمان (بانت) الذي كان من المُقرر فيه تسليم مذكرة للبرلمان، مُشيرةً إلى أن ذلك اليوم كان صعبًا واصفةً إياه بالمجزرة وأن الفاتح نجا وقتها من موتٍ مُحقق، وأنها طلبت من الفاتح أن لا يخرج مرةً أُخرى. وأضافت: أصر الفاتح بعدها على المشاركة، كان همهُ الوطن، لمن يكن ذا ميولٍ سياسية، يحمل هم المسكين والظلم الواقع على الناس، لم يصدق حين اندلعت الثورة ليخرج ليحقق أهدافه، واصفةً الثورة أنها كانت ممتازة بكل المقاييس، وسلمية ناجحة. تجتر ماريا من ذاكرتها المواقف التي مرت بالفاتح ورفاقه وتقول: في أحد الأيام جاءني صديق للفاتح ممن شاركوا معهُ في المواكب يحكي لي أن أحدهم كان يشتم الفاتح عز الدين، فقال لهُ ابني (سلمية حتى لو بالألفاظ). ال17 من يناير يخرج صوت ماريا واهنًا وهي تستدعي تفاصيل ال17 من يناير تقول: حسبي الله ونعم الوكيل في العسكر، كان يوم 17 مجزرة عندما علمت أن الفاتح أصيب قلت في نفسي (اللهُ أعلم يطلع من الحصل دة). وأضافت: لم أكن أعلم نهُ سيشارك في موكب بُري قبلها بيوم كان ذاهب للعمرة، (صحاني من النوم وقال لي أنا ماشي مع خالتي العمرة)، أجلنا الحديث في الأمر لصباح يوم الخميس، غادر الفاتح لعملهُ في إحدى الشركات، بعدها خرج ليشارك في موكب العربي، وعندما تم تفريق المظاهرة ذهب إلى ميدان بري الدرايسة، كان شقيقهُ محمد مشاركًا أيضًا. تصمت ماريا وقتًا تستعيد أنفاسها وتواصل: حتى اللحظة التي أصيب فيها الفاتح أنا لم أكن أعلم بذلك، كان أصعب خبر في حياتي، كان الفاتح كل شيء في حياتي، ما تخيلت ولا توقعت للحظة أنهُ يُمكن أن يصاب. تقول ماريا إن القلق استبد بها في ذلك اليوم ولم تستطع النوم كعادتها بعد عودتها من الدوام المدرسي، تحدثت إلى ابنتها شيماء أنها تشعر بالقلق، اتصلت بابنها محمد الذي أخبرها أنهُ قادم، كان هو الآخر مصابًا ولم يُخبرها. اتصال الفاتح قامت بعدها ماريا بالاتصال بابنها الفاتح إلا أنهُ لم يجب على اتصالاتها، وتقول: كان هذ هو اليوم الوحيد في حياته الذي لم يرجع لي، كنتُ كل ما أقوم بالاتصال به، حتى لو كان مشغولًا ولم يستطع الرد، يعود للاتصال بي لو لم يكن في نفس اللحظة، فهو يعود باتصال بعد وقت. وأضافت: حوالي الساعة 2 ظهرًا قلت لابنتي شيماء (نشوف الفيس الحاصل شنو)، أول فيديو رأيتهُ ما كنت أظن أن هذا هو الفاتح، قلت لشيماء (شوفي الولد دة انضرب كيف، الله يصبر أمه)، بعدها بوقت علمت أن هذا فيديو الفاتح. أتصلت بعدها والدة الفاتح بكل أصدقائه لكن لم يرد أحد منهم على مكالمتها، ثم اتصلت على أحد أصدقائه لم يكن معاهم في موكب بري لكنهُ أخبرها أن الفاتح أصيب إصابة خفيفة في الكتف. تقول: صدقتهُ، توجهنا بعدها للمستشفى، كان يعاني من نزيف في الرأس ولم أكن أعلم بذلك أيضًا، مكث الفاتح أربعة أيام في غيبوبة وفارق الحياة بعدها. ال11 من إبريل كان سقوط نظام الرئيس المعزول عمر البشير في ال11 من إأبريل يوم فرح لدى أسرة الفاتح. تقول ماريا: كان ذلك اليوم يوم فرحةٍ لنا، وعندما سمعنا الخبر من الإعلام امتلأ البيت بالناس (كُنا فرحانين شديد) وذهبنا للقيادة، فرحتُ رغم الألم لم أتوقع سقوط البشير بهذه السرعة، لو كان بقى في السودان، ما كُنت لأظل في السودان يوم واحد ليخرج علينا يوميًا وهو (يرقص). بعد مضي عامٍ على الثورة وفي الذكرى الأولى للسقوط تقول ماريا إنهُ تم تضييع الشرعية الثورية، كانت يجب أن تكون المحاكمات سريعة هناك أشياء ما زلنا عاجزين عن فهمها، ما خرج لأجله أولادنا لم يتحقق، أبسطها الوضع الاقتصادي، مُحاكمة رموز النظام السابق، معتبرةً أن أيّ ملف قضية يتم فتحهُ ينبغي أن يكون المتهم الأول فيه البشير ومدير جهاز المخابرات الأسبق صلاح قوش، وأنهم قيدوا بلاغاتهم أيضًا ضدهما. وأضافت: المطالب كثيرة لكني لا أرى أن شيئًا تحقق، ولكن قبل تعيين مولانا الحبر نائبًا عامًا كانا يائسين، بعد تعيينه شعرنا بالاطمئنان وأنهُ يُمكن أن تتحقق العدالة، مشيرةً إلى أنها تعني ملف الفاتح وأنهُ يمضي بشكل جيد، إلى جانب قضية الطبيب بابكر، ومعاوية لجهة أن مسرحهم واحد. ورغم أن الوضع لا يبدو مطمئنًا ويمضي نحو الأسوأ بحسب ماريا لكنها تقول: لا نيأسُ من رحمة الله. مواقف الفاتح بطبيعة الحال لا يبدو أم ماريا تستطيع أن تتجاوز مرارة فقد ابنها، ليست ماريا وحدها بل أسرته حيثُ أجهش بعضهم بالبكاء كل ما جاءت والدتهُ بين ثنايا الحديث على تفاصيل يوم ال17 من يناير. وحين يبدو أنها تستدعي ذاكرتها مغالبةً ذلك الألم الحي، تختم حديثها وابتسامةٌ تعلو وجهها قائلة: أتمنى أن يتحقق القصاص لكل الشهداء، أن تتحقق العدالة وما خرج لأجله أبناؤنا لأننا لا نرى شيئًا ملموسًا الآن. وتضيف: كان الفاتح مرحاً جدًا، لهُ مواقف كثيرة لكنهُ حين يعود من المواكب كان يعود وهو (مبسوط وفرحان)، كان يقول لي: أنا بحكي لأمي عن ما حدث في الموكب، ذلك الذي يقتل، ما الذي يقولهُ لأمه، ماذا يحكي لها؟