اذا كان الخروج عن النمط المألوف يأتي ضمن تعريفات الظاهرة، التي ترصد لغرابتها اللافتة، فإن نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني «حميدتي» يمثّل بلا شك ظاهرة سياسية. توافق المجتمع السياسي على مواصفات في رجل الدولة، أهمها أن يكون قد تلقى تعليماً عالياً يمكّنه من معرفة أساسيات الدولة من سلطات وأجهزة ودواوين وقوانين ودستور، وأن يتدرج في العمل السياسي والتنظيمي حتى تتراكم عنده خبرات ضرورية تؤهله للصعود إلى مواقع عليا تُدار منها الدولة، ويُعرف رجل الدولة -حسب الصورة النمطية التي تكونت عنه- بالرجل المفوّه الذي يجيد الحديث بلغة قومه وبلغات أخرى، ويحدّث الناس في المنابر عن الحرية والهوية والتنمية والحكم اللا مركزي، وعن صراع الحضارات والأزمة الاقتصادية العالمية وعدم الانحياز وسباق التسلح والتوازن البيئي، لكن نجم حميدتي لمع بدون أي من هذه «الشروط»، فهل أبطل حميدتي دعاوى الأكاديميين والسياسيين عن شروط رجل الدولة؟ إن هذه الشروط ما زالت قائمة، لكن حميدتي قد نجح بدونها كحالة استثنائية حتى عُدّ ظاهرة، أعانته على ذلك الظروف التي ظهر فيها، وقدرته على أن يرسم لنفسه بدقة حدود المساحة التي يتحرك فيها، حتى لا يتوغل في مساحات يجهل أسرارها. كان المظهر الأول لحميدتي هو المقاتل الشرس الذي احتاجت إليه الحكومة في عهد الإنقاذ لقمع التمرد في دارفور، اختارت الحكومة هذا المقاتل الذي لم يتخرج في الكلية الحربية، التي تخرّج ضباط الجيش، بل ولم يتدرب في معسكرات الجنود النظاميين، اختارته الحكومة كحالة استثنائية بعد أن جرّبت مواجهة التمرد بخريجي المعاهد العسكرية فلم يفلحوا في كسر شوكة التمرد، قررت حكومة الإنقاذ حينها أن توظّف صراعاً قبلياً قديماً، طرفاه القبائل التي حملت السلاح في وجه الحكومة من جهة، وقبائل مهادنة من الجهة الأخرى، كان حميدتي مقاتلاً ضمن صفوف القبائل الموالية للسلطة، وظهرت عليه مواهب قيادية، فقاد قواته في حرب تقاطعت فيها أجندة الحكومة مع المصالح القبلية لحميدتي، فهزم غرماءه وانتصر للحكومة، لكن الرجل فاجأ الحكومة بطموحات لا تقف عند الرتب العسكرية التي أنعمت بها عليه الحكومة ولا الأموال، فهي أقل بكثير مما قدمه للحكومة في ساحة الوغى، لذا مدّ بصره إلى السلطة في الخرطوم وإلى الذهب في جبل عامر، فهزم منافسه القبلي موسى هلال، ثم توجه إلى الخرطوم مالكاً للمال ومسنوداً بقوات ولاؤها لقائد الدعم السريع حميدتي، ولما حدث التغيير في السودان كان حميدتي قد أكمل استعداده للتطلع إلى موقع قيادي في السلطة الجديدة، يؤهّله المال وقوته العسكرية والثقة بالنفس، ولم يُعقّد الأمر على نفسه فاختار من السياسة طريق الخدمات المباشر، فحلّ أزمة الخبز بتوفير الدقيق، وأزمة النقل بتوفير الوقود، وشاركت قواته في حملات التطعيم والعلاج، واختار لنفسه حاضنة سياسية من رجالات الإدارة الأهلية الذين يشبهونه، ولم يحدّث الناس يوماً عن البرجوازي الصغير أو المشروع الحضاري أو المؤسسية الحزبية، وتدرج بلا تعجّل فلم يضع قدمه على عتبة قد ينافسه عندها الساسة أصحاب المصطلحات، وهكذا إلى أن وجد خريج المدرسة الابتدائية نفسه رئيساً للجنة العليا للطوارئ الاقتصادية، ينوب عنه رئيس الوزراء عبدالله حمدوك حامل درجة الدكتوراه في الاقتصاد الزراعي . (العرب) القطرية