هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته يُحمد للأستاذ سيِّد الخطيب – بعكس بقية قيادات الإنقاذ – قلة تصريحاته وظهوره عبر نوافذ الإعلام المختلفة إضافة لطرحه الموضوعي الذي يُغري بالنقاش في كثير من الأحيان، ومن ذلك ما صرَّح به مؤخراً في التنوير الذي عقده مجلس الدعوة للأئمة والدعاة وخطباء المساجد حول اتفاق أديس ابابا المُوَّقع بين حكومتي السودان وجنوب السودان. وجَّه الأستاذ الخطيب إنتقادات لاذعة للرافضين لإتفاق الحريات الأربع مع دولة الجنوب، وقال ليست هنالك شريعة دينية تمنع الجنوبيين من العيش في الشمال، وأضاف (العجرفة كلفتنا الكثير في الماضي وستكلفنا الأكثر في المستقبل). يتفَّق كاتب هذه السطور مع الأستاذ الخطيب في أنَّ "العجرفة" كلفتنا في الماضي وتكلفنا حالياً وستكلفنا الأكثر في المُستقبل إذا لم يتغير الأسلوب والمنهج والعقلية التي يُدار بها السودان، فالعجرفة أو "الإستعلاء" داءٌ أبتلينا به مثلما أبتليت به الكثير من الدول، ولكن المُشكلة لدينا تتمثل في عدم استيعابنا لدروس التاريخ وتجاربه ومنها تجربة انفصال الجنوب. الذين رفضوا اتفاق الحُريات الأربع – يا أستاذ سيِّد – لم يهبطوا من السماء ولكنهم فئة معلومة للجميع، هم ثمرة شرعيَّة من ثمار الإنقاذ المُرَّة، بُذرت ونمت وترعرعت في تربتها، وظلت تمارس نشاطها السياسي و التعبوي والإعلامي "المتعجرف" بحرية و بموافقة معلنة و إجازة من الدولة. رأس هذه الفئة الإنقاذية هو من وقف من قبل مُخاطباً نفس الجمع من الأئمة والدعاة الذين تخاطبهم أنت اليوم - يا أستاذ سيِّد - حول اتفاق أديس أبابا الذي وقعهُ الدكتور نافع مع الحركة الشعبية - الشمال وقال: (هذا اتفاق كارثي أحيا نيفاشا مرة أخرى بعد أن قُبِرَتْ)، ومن ثمَّ استطاع – مع آخرين - إجهاض الإتفاق الذي كان سيُوفر على البلد كثيراً من الدماء والأرواح والدموع والموارد. الحالة "المرضيَّة" التي تعاني منها هذه الفئة الإنقاذية تتضِّح جلياً في مواقفها التي تعكس "عقدة" دونيَّة تجاه كل ما هو آتٍ من "العرب" وإستعلاء أجوف تجاه كل ما هو "إفريقي" حتى مع شركاء الوطن. لماذا لم تنبس هذه الفئة ببنت شفة بخصوص اتفاق الحريات الأربع (التملك – الإقامة – العمل – التنقل) الذي وقعتهُ حكومة الإنقاذ مع نظام حسني مبارك الذي احتل مثلث حلايب بالقوة وسارعت – أى الحكومة - في تطبيقه بخفة وعجلة غير مبرَّرة بينما لم تطبّقه الحكومة المصريّة حتى يوم العالمين هذا؟ قال الأستاذ الخطيب للرافضين لإتفاق الحريات الأربع: (إنَّ قطع العلاقات مع جنوب السودان مستحيل إلا أن يأتينا ذو القرنين لإقامة سد منيع). وهذا قولٌ صحيح تدعمهُ حقائق الجغرافيا والسياسة والتاريخ والاقتصاد. ولكن الفئة الإنقاذية "المتعجرفة" لا تحرِّكها هذه المُعطيات العقلانية وإنما تستند في رؤيتها إلى آيديولوجيا "عنصرية " لا ترى في الجنوبيين سوى كائنات بدائية مُتخلفة تُحرِّكها أيادي الغرب والصهيونية العالمية ضد "المشروع الإسلامي". هذه العقلية العنصرية لا تبدي إمتعاضاً و لا ترى غضاضة في السماح "للدول العربية" باستغلال المساحات الشاسعة من أراضي السودان في الاستثمار الزراعي كيفما شاءت، بينما لا تسمح للجنوبي "بحقنة" علاج في مستشفيات الخرطوم. وعندما يقول الأستاذ الخطيب أنه ليست "هنالك شريعة دينية تمنع الجنوبيين من العيش في الشمال" فإننا نقول له إنَّ أس الأزمة التي أدخلتنا فيها الإنقاذ يتمثل في إقحام شعار "الشريعة" الذي لا يُمكن تعريفه وتحديده بدقة في كل شأن سياسي، ففي الوقت الذي ينفي فيه الأستاذ سيِّد وجود شريعة دينية تمنع "الجنوبيين" أو غير المسلمين من العيش في الشمال، فإنَّ هناك فئات إنقاذية ودينية أخرى ترى أنَّ "العقيدة" وليس "المواطنة" هى الرابطة التي تجمع أهل السودان، وهذا أمرٌ يمسُ مجموعات عديدة من غير المسلمين في السودان الشمالي، وهذا للأسف الشديد هو الخطاب الذي بثتهُ الحكومة بعد انفصال الجنوب بحديثها عن عدم "الدغمسة" وعن تطبيقها للشريعة "الصحيحة" وكأنها لم تحكم بها منذ عقدين من الزمن. المصيبة الكبرى التي توضحُ حجم المأزق المأساوي الذي أوقعتم فيه أنفسكم – يا أستاذ سيِّد - تتبدى جلياً في إضطراركم كحكومة للهث وراء " الأئمة والدعاة وخطباء المساجد" والتزلف لهم لإقناعهم بمباركة قراراتكم السياسية والإستراتيجية حتى لا تختطفهم منكم الفئة المناوئة مثلما فعلت في السابق. أنتم الآن تجنون ثمار ما غرست أياديكم طوال سنوات حكمكم للسودان إذ أنَّكم أوقفتم النمو الطبيعي للمجتمع المدني عبر نمو أوعيته الممثلة في الأحزاب و النقابات والاتحادات المهنيَّة وغيرها من مواعين تجميع الشعب على أساس الانتماء "الوطني" المدني، وخلقتم هذه الكيانات البديلة التي ظننتم أنها تخدم برنامجكم "السياسي" عبر خطاب "الوعظ" الذي يستثمر في "العواطف الدينية" وهى الآن بلغت من القوة مدى جعلها تؤثر في قرارات البلد الإستراتيجية مثل قرار الحرب والسلام. قال الأستاذ الخطيب كذلك إنَّ اتفاق الحُريات الأربع سيُتيح (الفرصة لنشر قيم الدين الإسلامي في دولة الجنوب)، ولكنهُ نسى أنَّ من الصعب على الفئة "الرسالية" المتعجرفة إستيعاب معنى نشر الإسلام سلمياً مع انَّ أهل السودان "رماة الحدق" في الأساس لم يدخلوا الإسلام عبر الحرب والفتح بل بالحسنى، هؤلاء يُريدون نشر الإسلام عبر "الغزو" لأنَّ من لم يغز أو يحدِّث نفسه بالغزو مات ميتة جاهلية. ليس هناك شخص عاقل – يا أستاذ سيِّد - يرفض إتفاقاً يوقف الحرب و يجلب السلام، و لكن دروس التاريخ وتجارب الماضي القريب علمتنا أنَّ الإتفاقيات التاكتيكية المدفوعة بضغوط خارجيَّة والتي لا تخاطب جذور المشاكل لا تدوم طويلاً، وهو الأمر الذي تجلى في الإتفاق الأخير مع دولة الجنوب والذي بدا للكثيرين أنهُ نتاج حالة الأزمة التي يعيشها الطرفان والناجمة في الأساس عن الأوضاع الاقتصادية المتردية في كلا الدولتين. قد يُلاحظ الأستاذ الخطيب أنَّ القوى السياسية المُعارضة للإنقاذ دون إستثناء – وعلى العكس من الفئة الإنقاذية المتعجرفة – لم ترفض اتفاق أديس أبابا، ولكنها أبدت مخاوف مشروعة من أنَّه قد لا يصمُد في المدى الطويل لإسباب موضوعية، وهو موقف قريب من ذاك الذي اتخذتهُ من نيفاشا حين باركت الاتفاق وتحفظت على العديد من تفاصيله وتأكد أنَّ نظرتها كانت صحيحة، ومع ذلك تصر الحكومة على تجاهلها و استبعادها من المشاركة في حل قضايا الوطن المصيرية الكبرى ولا تطلب منها موقفاً إلا الدعم في النوازل مثلما حدث في غزو "هجليج"، وهذا ضربٌ من "العجرفة" مماثل لموقف الفئة الإنقاذية الرافضة للإتفاق. إنَّ قول الأستاذ سيِّد (إنَّ المنطقة العازلة التي أقرَّها الاتفاق ستؤدي إلي إخماد نار التمرد في النيل الأزرق وجنوب كردفان بإتاحتها لفرصة مراقبة خطوط الإمداد من داخل الجنوب) يوضِّح بجلاء أنَّ الإتفاق عوَّل على ضغوط عسكرية مؤقتة يُمكن أن تنجح في إضعاف الحركات المسلحة في جنوب كردفان والنيل الأزرق في المدى القصير ولكنها لن تحل المُشكلة بصورة نهائية، وهو درس يجب أن لا يفوت على أهل الحُكم الذين عايشوا فترات الضعف التي مرَّت بها الحركة الشعبية في تسعينيات القرن الماضي عندما سقط ظهيرها الإثيوبي "منقستو" وظنَّ الجميع أنَّ "صيف العبور" هو النهاية الحقيقية للتمرُّد، فإذا بالحركة تجمِّع قواها وتعود من جديد أكثر قوة لساحة الحرب التي أنهكت البلاد وقضت على الأخضر واليابس و لم يوقفها إلا اتفاق سلام نيفاشا الذي تم التوصل إليه عبر التفاوض. الحل الوحيد لجميع قضايا السودان بما فيها "العجرفة" التي قلت يا أستاذ سيّد انها كلفتنا كثيراً في الماضي وستكلفنا الأكثر في المستقبل يكمن في عودة النظام الديموقراطي "الحقيقي" الذي يضمن إشاعة الحُريات والتداول السلمي للسلطة والانتخابات النزيهة وفصل السلطات، ودون ذلك سنظل ندور في هذه الحلقة المفرغة التي لن يجني الوطن من ورائها سوى المزيد من الحروب والتمزق.