ليس من الصعب أن تكون شخصاً مثقفاً، وليس من شروط الثقافة أن تكون حاصلاً على شهادة جامعية، بهذه الخطوات نجح العم محمد فيما فشل فيه الآخرون، فهو شخصية بسيطة بائع خضار ولكنه من خلال ثقافته وتبحره في بحر شعراء العامية في السودان وشعراء الحقيبة، فكان بحق علما على رأسه نار افتقده الكل بعد رحيله المفاجئ وهو ما دفع بأن لا يستطيع احد أن يملأ مكانه بجزارة الحي العتيقة التي اغلقت ابوابها خلفه حزناً وحسرة. * جزارة الحي هو شخصية يصعب وصفها ولكن كما رسم ملامحه في اعين زبائنه، فهو دائماً يرتدي البلدي جلابية ومركوبا وعلى رأسه تلك الطاقية الصغيرة الخضراء وعندما يبتسم يلمع نائبه الذهبي، وعلى وجهه لمحة ترحاب لا يضن بها على احد ولا يخص بها احدا عن غيره، فهو شخص فكاهي يكره التكشيرة ويبغض (صرة) الوجه من اول الصباح، مواعيده منتظمة فهو يأتي الى محله بالحارة 13 الثورة الشنقيطي عند الساعة العاشرة ويغلق بعد صلاة الظهر، وطريقة بيعه للخضار كانت تتسم بالمسامحة والفرز حسب طلب الزبون والذي يمنحه رضاه الكامل يعطيه من الخضار المخصوص الذي يخبئه من اجل (سوسو) التي ظلت مجهولة عند البعض والبعض الآخر يظنها زوجته الحبيبة، كانت له طريقة فريدة في التعامل كان يلتقط من افواه زبائنه بداية الخيط الذي يشكل عنده بداية كل بيت شعري، فتبدأ القصة أو الطرفة من طريقة الصوت الذي يطالبه أن يسرع في البيع أو من ناحية المسكن أو القبيلة أو صلة الجوار من حيه القديم سوق الشجرة بأبوروف، انه يبدأ في الاسترسال تحضره القصيدة فوراً أو يردد ما يحفظه من ابيات شعرية، أو يبدأ الدندنة بصوت الفنان عثمان الشفيع، فكانت هذه الكسرات التي يلطف بها الجو يشاركه فيها العديد من ارباب الاسر، وعندما كان يعاكس فكانت تأتي لمحاته سمحة كوجهه الصبوح لا تخدش ولا تهتك عروة الاحترام التي يحافظ عليها بأدب، فهو يربط كل حال بما شابهه بما حدث سابقاً فكانت تأتي احياناً المقارنات حادة أو حنينة تعيد الناس الى ايام زمان زمن الرخاء أو زمن الحوش الكبير وايام جده الكبير وبيت العائلة بأبوروف، فالعم محمد سنهوري كان عالماً خاصاً الى أن اصابته وعكة خفيفة وهو الذي تداهمه آلام المصران الغليظ بلا رحمة وكم في مرات عديدة وقفت لشراء الخضار، فأجد كورة الزنجبيل مترعة بالرائحة الزكية تتوسط شباك المحل من الجهة الشمالية، لانه دائماً ما تشتد على آلام التهاب الحلق التي تصادر صوتي لايام فيأمرني أن اكرع من هذه الكورة ما استطيع لان لهيب الزنجبيل يزيل الالتهاب وهو يشربه باستمرار لانه يخفف عليه آلام بطنه الى أن ذهب مستشفياً الى مصر للعلاج بدون أن يودعه الا القلة التي لم تكن تظن انها رحلة بلا عودة، فنفاجأ في مارس الماضي برحيله المفاجئ الذي استقبله الكل بحزن كبير، ومن ثم اغلق المحل من بعده. * قصائد الليمون الذي يدعو للعجب أن العم محمد كانت له ثقافة خاصة به واسلوب عجيب في مخاطبة الاسر رجالا ونساءً واطفالا، ولم يجده احد في اي يوم اقبل فيه اليه انه عابس أو متضايق، الكل دائماً يلمح اسنانه البيضاء تلمع تحت ابتسامته الدافئة، وكان يتعامل بالحاضر أو الدين او الكسور في اكثر الاحيان، لان اغلبية اهل الحي يتعاملون معه منذ سنوات طويلة، فكانت السيدات يحملن ما بأيديهن من جنيهات قد لا تكون بمقدار ما أخذ منه فكان يقول لها قولته التي يعرفها الكل (انا سألتك هسع) فالكل كان يشتري ويدس في يده جنيهات لا يحسبها ابداً امام احد، الا أن تأتي الزبونة في المرة المقبلة وتقول له (دا حق يوم داك) فكانت هذه الاشارات المتداولة مثار تنكيت وضحك، فيقولون له دا محل جزارة ولا استخبارات، فيقول انا ضابط أمن غذائي، والذي كان يحرص عليه أن يلقي على مسامع كل شخص يقصده قصيدة، فهو شاعر ممتاز كانت له العديد من القصائد التي رواها في مناسبات عديدة ولقد احزنه بشدة انفصال الجنوب، وله في هذا الحدث ابيات حرى نتمنى أن نتحصل عليها من اسرته التي نتمنى وبشدة أن تحافظ على هذا الانتاج الكبير لهذا الشاعر المجهول، ليتم نشرها فيما بعد. فكانت قصائده دائماً منعشة تحمل دعاش الليمون، وعبق ذكريات الجلوس على ضفاف النيل في ابي روف وهو يردد مع رفاق الصبا اشعار عتيق وسيد وعبيد وابو صلاح والعبادي وسرور كرومة، فهو يحفظ اشعار العبادي وعبد الرحمن الريح وعدد كبير من قصائد مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، وله ذخيرة لا يستهان بها من النكات والملح التي لها مواقف، والاجمل كان يعد حقيبة فنية بحق لكل المواقف التي انجبت قصائد اصبح لها الآن ذكر لم ينمح، فكان له اسلوب خاص يسلب الانتباه فينصت اليه الكل بدون تذمر، طرائف ابو داؤود وعائشة الفلاتية والنعام آدم والكاشف وأحمد المصطفى وعن غيرة عثمان حسين الفنيه وتنافسه في انتاج الجديد، وكان مرصداً لتاريخ ابو روف وحي الشجرة وام درمان القديمة وفريق السوق. * كنتين فايتمينات المرحوم محمد سنهوري بشخصيته وثقافته حول كنتين الجزارة من بيع الخضار واللحمة الى كنتين فايتمينات ثقافية عالية الجودة والمستوى والتركيز في الفرز والانتقاء، وهنا لا نقول عنه الا كما علمنا اذا انصت كل شخص لما حوله باهتمام يمكنه أن يحسه ويمتصه ويلتصق به ويترجمه إما حكمة أو كلمة او نغما، فكانت إلفته واسلوبه الراقي في التعامل فجاءت هذه الكلمات ترسمه وتعبر عن مدى فقده: بحكي عن عمي سيد الجزارة المثقف لما يجي يرص خضارو ما ببيع قرع اخضر أو ليمون اصفر بيحكي دائماً عن حكاوي خلدت ذكريات كثيرة وعن اغاني كشفت اسرار عزيزة ويزيد زباينو دائماً بمعلومات مفيدة وكيف ابتكر! من وقفة الجزارة... لحظة جلوس مع جريدة او رحلة تصفح في جهاز الدنيا العجيبة تتمايل كلماته دي مع اي زول مره قصيدة ومرة نكتة ومرة ضحكة ومرة نصيحة كان غذائية أو طبية يا حليل (محمد) لما سافر ما ترك الوصية أو انذر إن الشوفة كانت في اليوم داك.... أخيرة.