كرمية لهذا الموضوع لا مناص من إعادة قصة ذكرتها من قبل فحواها انني دخلت في شراكة مع احد بلدياتنا في موسم زراعي والشراكة في مشروع الجزيرة تكون بين صاحب الحواشة الذي يوفر كل المدخلات والمعينات والعامل الذي يقوم بكل الاعمال الفلاحية وفي نهاية الموسم تخصم التكلفة التي دفعها المزارع ويقسم بقية العائد بين الشريكين فالذي حدث أن الشريك جاءني واستلم المدخلات المطلوبة عند بداية الزراعة وهي التقاوى (التيراب) وسماد الداب وقبل الزراعة اكتشفت أنه قد باع جزءا من الذي استلمه فقلت له وسط رهط من اهله ياخي دي اسوأ انواع السرقة لانها سوف تؤدي الى قلة الانتاجية وتضرنا الاتنين فالشيء البضرك ما تعمله مهما كانت فائدته الآنية ثانيا خلي سرقتك مخفية بالنسبة لي لكي استمر في الشراكة معك . فقال لي كيف؟ قلت ما تسرق من التقاوي ولا من الاسمدة ولا من المبيدات و لو في طريقة تزيدها من عندك وتعمل على أن يكون الانتاج كبيرا وبعد داك تسرق لان السرقة من المنتج النهائي خاصة اذا كان كبيرا ما في زول بحس بيها وعائدها اكبر وضربت له مثلا بقريبي السواق وهو يعرفه جيدا كيف يشتري الجازولين دون علم صاحب العربية ويكثر المشاوير ويزيد الدخل بصورة تجعله احسن سواق ثم يهبر هبرته لدرجة أن صاحب السيارة عندما اصبح على علم بفعلته (عمل نائم) واصر على الابقاء عليه تحت قاعدة (بارك الله في من نفع واستنفع) (2 ) بعد أن حكيت القصة اعلاه كتبت يومها في هذا المكان قائلا نعم السرقة فعل سيء وقبيح يجب الوقوف ضده والفساد امر قبيح و مستنكر ولكن لا السرقة ولا الفساد تم رفعهما من الارض وسيظلان باقيين ما بقي الانسان لان صراع الخير والشر أبدي لكن فسادنا في السودان وعلى كافة المستويات من القاعدة الى القمة فساد متخلف وأشد ايذاء خاصة فساد القمة لأن دائرة اندياحه كبيرة ويحتاج الى تطوير لذلك اقترحت مازحا انشاء مركز لتطوير الفساد تكون مهمته أن يعلم الناس كيف يفسدون دون أن يضروا انفسهم ثانيا والأهم كيف يراعون حقوق ضحاياهم وذلك باختيار التوقيت المناسب حتى لا يتأثر الانتاج سلبا فكلما زاد الانتاج تناقصت اضرار الفساد وهنا يلتقي الفساد مع العمل الدوغري اي الصاح في أن كليهما يتطلب زيادة الانتاج ومن هنا اتت مشروعية المركز الذي اقترحته مازحا فاذا كانت البلاد تريد زيادة الانتاج زيادة رأسية وطالما انها عاجزة عن مكافحة الفساد يجب أن تسمح لنا بتطويره كإنشاء مركز توعيه بذلك وعملت لتأصيل لذلك بالقول إن علماء الاصول يقولون اذا اجتمع ضرران يجب أن نأخذ بالاخف (3 ) قبل الإنقاذ كان الفساد موجودا في السودان وبعدها سيظل موجودا وهذا امر بديهي ولكن فساد الانقاذ كان فسادا ممنهجا وقد بررته بما يسمى بالتمكين والهدف منه أن تسيطر ايدولوجية الجماعة الحاكمة على المجتمع بعد تقويته والسيطرة عليه ايدولوجيا وهذا يبدأ بسيطرة الشخوص وهؤلاء الشخوص يقومون بتحويل املاك الدولة الى المجتمع لتصبح الدولة التي على رأسها الحكومة جهازا اداريا بيروقراطيا يأتمر بأمر المجتمع فتنتفي الحاجة للسيطرة على الحكومة وينتهي بذلك الصراع السياسي ويحسم الامر ولكن وبما أن بلادنا متخلفة في كل شيء بما في ذلك في الفساد قام الشخوص الذين نفذوا سياسة التمكين بالبدء بأنفسهم فمكنوها ووقفوا عندها واهملوا شأن المجتمع وفتح ذلك عليهم طاقة جهنمية من جماعتهم في التنظيم ثم قاموا بتمكين حزبهم ففتح عليهم طاقات جهنمية من بقية الأحزاب والمجتمع وليس هذا فحسب فالتمكين كان في الأموال العائدة من البترول والذهب وبيع المواقف السياسية فبدلا من استثمارها في مشاريع انتاجية ضخمة عميمة الخير تم توزيعها (تقاوى) عقارات وأسهم وودائع وإنفاق على الذات والاهل والمحاسيب وشراء الخصوم وتجارة عملة وسلع سريعة العائد والذي منه فظهرت ما اصطلح على تسميته بالدولة الكليبتوقراطية وعلى حسب ترجمة استاذنا البروفيسور عبد الله علي ابراهيم هي الدولة الرمرامة . وفي تقديري انها في السودان قد اتخذت شكل الدولة الرديفة او المردوفة اي تلك التي تعتمد على الدولة الأم في كل شيء ولايمكن فطمها منها بالتالي زاد الصراع على الدولة وفشلت عملية تقوية المجتمع بتقوية القاعدة الانتاجة فالذي حدث هو زيادة شدة الفقر فاتجه الجميع نحو السلطة السياسية باعتبارها آلية الكسب فاستعر الصراع السياسي (4 ) كل الدولة الغربية المتقدمة والتي اصبحت مضرب المثل في التقدم والرفاهية وحقوق الانسان الآن قامت على الظلم والطغيان واستغلال الانسان لأخيه الانسان فالرأسمالية التي اعقبت عهد الاقطاع والمسيطرة الآن على تلك الدول قامت على الموت والدمار والدم والنار والإبادات الجماعية كما حدث لحضارات امريكا الجنوبية والهنود الحمر وتجارة الرق في افريقيا والاستعمار بقوة السلاح والسخرة والموت بالملايين في المناجم والمصانع والعلاقة اللامتكافئة مع الآخر وحكم القوي على الضعيف القائم الى يومنا هذا ولكن تلك الطبقة الرأسمالية طورت ادواتها واتجهت الى الانتاج الصناعي والزراعي المتطور وبشروط افضل اسهمت في ترقية اوضاع الضحايا الى أن وصلت الآن مرحلة النيوليبرلزم اي الليبرالية الحديثة حيث لا فوراق تذكر في معيشة بين رب العمل والعاملين وبهذا استلمت تلك الرأسمالية مقاليد ومقدرات البلاد وجعلت الحكام مجرد موظفي علاقات عامة يأتمرون بأمرها فاصبح جهاز الدولة جهازا بيروقراطيا عاديا وكما قال الرئيس الفرنسي السابق فاليري جيستان ديستان نحن كرؤساء في الدول الغربية مجرد موطفي علاقات عامة لدى الطبقة الراسمالية (5 ) الإنقاذ حاولت أن تترسم خطى الرأسمالية الغربية ولكنها تنكبت الطريق لعوامل كثيرة لايسع المجال لذكرها هنا ولكنها كلها تدخل في الفساد المتخلف، فالمهم في الامر وكما ذكر البروفيسور عطا البطحاني لم تستطع الانقاذ إيجاد الطبقة التي تدير المجتمع باستغناء عن الدولة اذ ظلت الدولة الرديفة ترضع في ثدي الدولة الأم حتى آخر لحظة لذلك كان لابد من أن تتمسك بالدولة وتستميت من اجل الإمساك بها لأن بها اكسير الحياة . في تقديري أنه كان في مقدور الانقاذ أن تنجح نسبيا في الامساك بالمجتمع لانها مرت بالدولة الريعية يوم أن كان البترول سيد الاقتصاد واعقبه الذهب فكان يمكن التوجه نحو الزراعة والصناعة التحويلية وزيادة عدد المنتفعين واقامة رأسمالية منتجة ومسيطرة على الاقتصاد ولكنهم عملوا بنظرية (الحاضرة بخيتة) ونسوا المثل الذي يقول (الشفقة تطير) ولكن الاسوأ من الشفقة النظرة الذاتية الضيقة فإذا كانت نظرتهم نظرة كلية نحو المجتمع السوداني كافة وهذا ما يحض عليه الدين والاخلاق القويمة (فلا هطلت علي ولا بأرضي سحائب ليس تنتظم البلادا) او كما يقول المثل الشعبي البياكل براه بيخنق اذ كان يمكن اخراج عائد النفط من الميزانية وتوجيهه للزراعة والصناعة القائمة عليها كما اقترح الدكتور عبد الوهاب عثمان الذي كان وزيرا للمالية ساعتها و في ذات الإنقاذ فكان مصيره أن خرج من الوزارة وعاد الى بيته بسيارة تاكسي (6 ) بما أن كل شيء يحمل في طياته بذور فنائه وهذه جدلية تاريخية متفق عليها فإن الانقاذ بسياستها تلك حملت بذور فنائها اذ انه بعد خروج النفط وعدم ضبط صادر الذهب وعدم وجود موارد اخرى اذ كانت الصادرات الزراعية منهارة او منهوبة دخلت الرأسمالية الطفيلية الناجمة عن الدولة الرديفة في صراع داخلي حاد على السلطة التي يخرج منها الانبوب للدولة الرديفة اي صراع بين الجماعة الحاكمة نفسها ثم الصراع بين رأسمالية الإنقاذ والرأسمالية التي كانت قبلها ولكن تعملقت في عهد الانقاذ وعلى حسب مصدر موثوق فإن العشرة الاوائل من اثرياء السودان (التوب تن) كانوا وما زالوا من غير الاسلاميين فهؤلاء كانوا لابد من أن يحسموا الصراع لصالحهم بتغيير السلطة الحاكمة ثم اتى دور الشعب الذي تم تمهيد المسرح له بالصراع المشار اليه فقام بالخطوة الأخيرة والحاسمة وهي شنقلة الريكة كلها (7 ) عليه لكل ما تقدم اصبح القضاء على الإنقاذ وارثها لم يعد امرا صعبا فكل المطلوب اغلاق الانبوب الذي يوصل الدولة الرديفة بالدولة الأم وهذا ما حدث بمجرد تغيير السلطة وتبقى بعد ذلك مقاومة المنتفعين من ذلك الانبوب وهؤلاء ينقسمون الى قسمين الاول كبار المنتفعين وهؤلاء عددهم قليل وهؤلاء لابد من ارجاع ما نهبوه من مال الشعب ولعل هذا ما يجري الآن اما الفئة الثانية فهم صغار المنتفعين وعددهم اكبر نسبيا فهؤلاء كان نصيبهم الفتات وسيكون من الأوفق ومن اجل استقرار البلاد ارجاع ما يمكن ارجاعه منهم لا بل محاسبتهم قضائيا بما اخذوه ثم غض الطرف عن من لم يأخذ شيئا ماديا وعن من كفت ايديهم عن الفساد تلقائيا لانغلاق الانبوب . وهؤلاء لن يكونوا من المتباكين على الإنقاذ اذا تركوا لحالهم واستعادوا حياتهم الطبيعية التي اصلا لم يفارقوها كثيرا . اما الإصرار على عزلهم ودواسهم فسوف يجعلهم ينضمون لكبار المنتفعين الكبار الذين افتقدوا الانبوب ويكمن أن يسخروهم لاشاعة عدم الاستقرار بدعاوى مختلفة وهنا يمكن الركون الى القاعدة الاصولية التي تقول اذا اجتمع ضرران يجب الاخذ بالاخف او القاعدة الاصولية التي تقول "ما لا يدرك كله لا يترك جله" ولكن يبدو أن محاربة الفساد هي الاخرى تحتاج الى معهد لتطويرها وهذة قصة اخرى .