كشف وزير المالية السابق د. إبراهيم البدوي، عن تفاصيل حيثيات استقالته التي دفع بها إلى رئيس الوزراء في الأيام الماضية. وأماط البدوي اللثام بتوضيح بعض النقاط المتعلقة بعمله في وزارة المالية والعلاقة التي تربطة مع رئيس الوزراء د. عبد الله حمدوك، وأوضح أنه كتب البيان استجابةً لرغبة ملحة عبّر عنها الكثير من أبناء الوطن لمعرفة دواعي ومُلابسات مُغادرته حكومة الثورة الانتقالية وفي هذا الظرف بالذات.. (السوداني) تنشر نص البيان كاملاً: بسم الله الرحمن الرحيم
بيان صحفى 19 يوليو 2020 الدكتور/ ابراهيم أحمد البدوي *وزير المالية والتخطيط الاقتصادي السابق
1. يأتي هذا البيان كاستجابة لرغبة ملحة عبّر عنها الكثير من أبناء الوطن علي إختلاف مشاربهم وتوجاتهم السياسية والفكرية لمعرفة دواعي وملابسات مغادرتي حكومة الثورة الانتقالية وفي هذا الظرف بالذات، خاصة بعد نجاح مؤتمر الشركاء في الخامس والعشرين من يونيو واختتام مفاوضات البنّمج المتُابع من قبل منسوبي صندوق النقد الدولي (IMF Staff Monitored Program: SMP) والذي، باذن الله، سيشكل قناة العبور لْآفاق اعفاء ما يناهز 60 مليار دولْاراً من الديون الخارجية واعادة تأهيل البلاد للاستفادة من منح التنمية الدولية، حيث يمكن لبلادنا وقتها الشروع في انفاذ برنامجها الوطني للتنمية المستدامة ومكافحة الفقر وبناء السلام. أرجو الافادة بأن هذا البيان لا يهدف لتسجيل موقف أو الغمز من قناة أي كان؛ بالرغم من التلميحات بأن قبول الاستقالة مرتبطٌ بتقييم للأداء، ولا أدري المعايير التي استند اليها. وعلى كل لا مشاحة فيما ذهبوا إليه فكلنا شركاء في الوطن وفي نصرة هذه الثورة المجيدة وإن إختلفت رؤانّا واجتهاداتنا.
1. لقد تشرفت بالإنضمام للحكومة الإنتقالية كوزير لهذه الحقيبة الهامة وأنا صاحب مشروع اقتصادي عملت على تطويره عن طريق الأبحاث الأكاديمية والسياسوية، إضافة إلى خبرتي العملية خلال الثلاثين عاماً الماضية، حيث أعددت حوالي 26 ورقة عن الإقتصاد السوداني نُشرت في دوريات وكتب محكمة، إضافة إلى أربع مساهمات لعامة القُرّاء والرأي العام كانت أولْها في العام 1994 وقُدمت في القاهرة للورشة الاقتصادية لقوى "التجمع الوطني الديموقراطي" المعارض آنذاك. وكانت المساهمة الثانية بعنوان "البديل الوطنى: البنَّمج الإقتصادي" والتي استعرضتها في مؤتمر قوى المعارضة السودانية في أغسطس 2011م بدار حزب الأمة القومي بأم درمان، بينما تعرضت الورقة الثالثة في فباير 2018م بالتحليل النقدى لنظام "سعر الصرف المدار" وأخيراً جاءت الورقة الأخيرة الموسومة: "حرية سلام وعدالة والثورة خيار الشعب" كمرجعية لمنهج الثورة الاقتصادي في يناير 2019م لتطرح برنامجاً اقتصاديًا نهضوياً رأيت أنه يلبي تطلعات ثورة ديسمبر المجيدة، مستلهماً شعار الثورة الأبرز "حرية سلام وعدالة". 1. لقد خلصُت إلى أن علينا أن نتوفر على وصفة سودانية تستهدي بمنهج علمى مدروس، وتستصحب عصارة التجارب الدولية الناجحة الملائمة للأوضاع السائدة في الإقتصاد السوداني، فضلاً عن أن برنامجاً كهذا يجب أن يحظى بدعم كافة أو معظم القوى الاجتماعية والسياسية بالبلاد وأيضاً بتعاون مجتمع التنمية الإقليمي والدولي. وفي هذا السياق جاء اطار "خطة نهضة السودان الاقتصادية: 2020-2030″؛ والذي تحدثت عنه كثيراً في بدايات عهد الحكومة وحاولت الترويج له بكيانات اعلامية ومهنية وأكاديمية مهتمه بالإقتصاد والذي تمخضت عنه ثلاثة محاور أساسية على صعيد البرامج السياسوية:
أولاً: معالجة أزمة الاقتصاد السوداني لا بد أن تبدأ بإصلاح تشوهات الاقتصاد الكلي المترتبة على الدعم السلعي وتعدد أسعار الصرف وتسيد الأنشطة الطفيلية المرتبطة ب (السوق الموازي للنقد الأجنبي) بالمناسبة لقد درج التقليد في الأدبيات الأكاديمية على استخدام تعبير "الموازى" بدل عن "الأسود" ليس تلطفاً ولكن لأنه يحمل دلالات عنصرية. ثانياً: بذات الوقت من الأهمية بمكان تطوير رؤية للاقتصاد السياسي تستند إلى استنتاج مفاده أن إصلاح الإقتصاد الكلي لا بد أن يأتي في إطار مشروع متين للعدالة الإجتماعية والانتاج والإصلاح المؤسسى: ترشيد دعم المحروقات يأتي في إطار مشروع للانتقال من دعم السلع لدعم المواطن مباشرة: الهيكل الراتبي الجديد، هيئة التحول الرقمى ومشروع دعم الأسر.
اصلاح نظام سعر الصرف وصولا لتوحيده، وهو في واقع الأمر أكبر رافع للتحول من الإقتصاد الإستهلاكي والطفيلي إلى الإقتصاد المنتج. كفاءة ادارة الإقتصاد لا تتحقق فقط بالحوكمة الرشيدة والإصلاح المؤسسى، بل لابد أيضاً أن تستند الى تفويض كامل للصلاحيات من طرف مستويات السلطة الدستورية والتنفيذية العليا ليتسنى لها التركيز على الاشراف العام وبناء الخطط والرؤى الإستراتيجية. ثالثاً: البداية من حيث الرؤية والبرامج لابد أن تكون سودانية خالصة ولكن للخروج من حفرة عمقها ما يناهز 60 ملياراً من الدولارات لابد من البحث عن دعم الشركاء وهذا ما حققناه في مبادرات أصدقاء السودان والتي تُوِجت بمؤتمر الشركاء واتفاقية ال SMP.
1. لا شك أننا في وزراة المالية والحكومة بصفة عامة لم يحالفنا التوفيق في تحقيق الكثير من الأهداف المرجوة في اطار زمني قصير، ولكن بلا شك هناك انجازات كبيرة تحققت بفضل وضوح الرؤيا وقوة المنهج، تحدث عنها باسهاب الكثير من الكُتاب خلال الأسبوعين الماضيين، لا يتسع المجال للخوض في تفاصيلها في هذا السياق. 2. لعل الجانب ذو العلاقة المباشرة بهذا البيان هو أنني أيضاً أدرك جيداً أهمية التفويض الكافي لوزارة المالية والتخطيط الإقتصادي لتمكينها من تنسيق وقيادة عملية الاصلاح الاقتصادي بعد السنوات المتطاولة من سوء ادارة الإقتصاد والتجريف الممنهج لولاية وزارة المالية على الموارد والمؤسسات الإيرادية العامة. وهناك تجارب مستفادة في هذا الخصوص من دول شرق أوربا وأمريكا اللاتينية في عقد التسعينات، حيث أُسندت صلاحيات استثنائية لوزراء المالية لتمكينهم من تنسيق وقيادة الاصلاحات الاقتصادية العميقة التي كانت تحتاجتها تلك الدول. وفي هذا السياق فقد تفاكرت مع الاخ رئيس الوزراء عدة مرات خلال الأشهر الماضية، بدأت أولْها في أغسطس من العام الماضي، عندما أخبرني بعزمه تكليفى حقيبة المالية. وكنت وما زلت أعتقد أن الملفات المتعددة والحساسة التي يشرف عليها السيد الرئيس تجعل من الأهمية بمكان تفويض بعض الصلاحيات الهامة للوزراء الذين يتولون قيادة القطاعات الوزارية، كالقطاع الاقتصادى على وجه الخصوص. وفيما يلي هذا القطاع فهناك جزراً معزولة من الشركات والهيئات والصناديق في بعض الوزارات محمية بتشريعات تمكنها من الإستمرار في تجنيب الإيرادات وصرفها دون اشراف وزارة المالية ما أدى إلى عدم تمكننا من ادارة السيولة وتوظيفها حسب أولويات وحاجات الاقتصاد السودانى. 3. كنت أثير القضايا الْآنفة الذكر كأفكار وهواجس في اطار التشاور مع الأخ الرئيس – الذي تجمعني به علاقة شخصية ومهنية لما يربو علي ربع قرن من الزمان – كان آخر اللقاءات في اجتماع يوم الخميس، الموافق الثاني من يوليو والذي تم بناءً على طلبى بالنظر لإحساسي بأن المرقد أصبح أكثر الحاحاً بعد اتفاق الSMP. لقد كنت أكثر وضوحاً في هذا الاجتماع الأخير، حيث طلبت من الأخ الرئيس أن يجدد مساحة وطبيعة الملفات الاقتصادية التي يرى أن تكون تحت اشرافه المباشر وعن طبيعة المهام التي سيطَلِع بها مستشاروه الإقتصاديون وذلك بغرض تعزيز التكامل وتفادى تضارب الصلاحيات، بينما حاولت أيضاً اقناعه بضرورة منحي؛ كوزير مالية؛ صلاحيات تنسيقية كافية لكي أقود عملية انفاذ برامج ال SMP المتفق عليها خلال الستة أشهر القادمة. هذا وقد أتت هذه المقتراحات في ظل تباينات قد حدثت بيننا في بعض القضايا الهامة، حيث كنت أرى أن رأيي الفني المتخصص لم يُحظى بالإحترام الذي يستحق. وعليه رأيت أن علي السعي لتعزيز الإنسجام وتفادي خلافات كبيرة في وجهات النظر في المستقبل، خاصة وأن الفترة القادمة يفُترض أن تشهد قرارات صعبة من المأمول أن تفُضى إلى تحولات اقتصادية عميقة. أيضاً قد عبرت للأخ الرئيس بانني على استعداد، اذا لزم الأمر، لأفسح المجال له لإختيار من يراه أكثر توافقاً مع رؤيته ومنهجه لإدارة الإقتصاد، بينما أشرت بأن لي خيارات أخرى متاحة للمساهمة في العمل العام. وفي ختام الاجتماع شكرني على صراحتي ووضوح المقترحات التي طرحتها ووعدني بالتفكير فيها وافادتي، وأتفقنا أيضاً على عرض مسودة SMP والموازنة المعدلة الناجمة عنه، اضافة إلى ورقة تسعير المحروقات على مجلس الوزراء لاجازتها خلال الأسبوع التالي. 4. ولكن قبل مواصلة الحديث بشأن ما حدث في الأسبوع التالي، أتوقف قليلاً عند برنَّامج ال SMP ومدى أهميته لمستقبل البلاد الإقتصادي والسياسي وعلاقته بالتفويض الذي تحدثت عنه. هذا البرنامج يأتي كمعبر وحيد لتحقيق التنمية القومية الشاملة واحداث التحولات المنشودة، حيث نصت الوثيقة الدستورية على معالجة الأزمة الاقتصادية بايقاف التدهور الاقتصادي والعمل على ارساء أسس التنمية المستدامة وذلك بتطبيق برنامج اقتصادي واجتماعي ومالي وانساني لمواجهة التحديات الراهنة "الوثيقة الدستورية"، الاولوية رقم 2، وفي هذا السياق يمثل هذا البرنامج حزمة متكاملة من الاصلاحات المؤسسية وسياسات الاقتصاد الكلي والتي تم التفاوض حولها على مدى أسبوعين، حيث تطابقت معظم عناصر هذا البرنامج مع أولوياتنا الوطنية التي تم معالجتها في اطار قرارات لجنة الطوارئ الاقتصادية العليا. وبافتراض أن ازالة اسم السودان من قائمة الدول الراعية للارهاب أصبحت قريبة المنال، فان تنفيذ هذا البرنامج سينقل البلاد إلى آفاق غير مسبوقة تنفض عنَاصر تركة الانقاذ الاقتصادية الكارثية في خلال ستة الى ثمانية شهور فقط، حيث يتُوقع: الانضمام لمبادرة الدول قليلة الدخل، المثقلة بالديون HIPC، لاعفاء ديون السودان البالغة 56 مليار دولار والتي يتوقع أن تُفض إلى أقل من 15 مليار. * تسديد متأخرات الديون لمنظمات التمويل الدولية واعادة الانضمام للجمعية الدولية للتنمية IDA وتقديم منحة سنوية بحوالى مليار دولار كدعم مباشر للموازنة. * تدفق الاستثمارات المؤسسية – على سبيل المثال من قبل مؤسسة التمويل الدولية بالبنك الدولي وصندوق التنمية الافريقي ببنك التنية الافريقية – التي عادة ما توفر التمويل لمشاريع التنمية الاستراتيجة وبذات الوقت تمكن الدول من استقطاب الاستثمار الخاص. 1. في الاسبوع التالي لم أسمع شيئاً عما تم الاتفاق عليه في اجتماع الخميس، مما دفعني في محادثة هاتفية مع السيد الرئيس ظهر الثلاثاء، الموافق السابع من يوليو، بتذكيره باتفاقنا بشأن اجازة تفاهمات برنَّامج SMP ومواصلة الحوار حول القضايا الاخرى التي أثرتها معه. وعدنى الاخ الرئيس بدعوة المجلس بالاربعاء ولكن لم يحدث ذلك. الذي وردنى صباح الاربعاء شئٌ آخر يتعلق بخبر موثوق بأن هناك ترتيبات كانت تجرى وراء الكواليس وبتكتم شديد للتفاهم مع شخص من داخل الوزارة وعلى دراية بمفاوضات SMP ليصبح وزيراً مكلفاً بديلاً عني عندما يأتي الوقت المعلوم. بالطبع لم يزعجني هذا الامر لانني كنت قد قرأت ماذا يريد الرئيس من حيثيات "عدم الفعل" الذي اتسم به موقفه وبناء عليه حزمت أمري بأنني لابد أن أغادر وأصِر على ذلك. لكن الذي أحزنزني أنني كنت أقارب هذه القضايا الهامة بصراحة وشفافية ولكن للسف تم التعامل معي بأسلوب آخر. 1. لهذا عندما انعقد الاجتماع الطارئ يوم الخميس، الموافق التاسع من يوليو، رحبتُ مع زملائي بفكرة الاستقالات الجماعية التي طرحها الرئيس، خاصة وأنني كنت قد تقدمت بمقترح في الموقع (غير الرسمي) الخاص بأعضاء الحكومة في السابع والعشرين من يونيو، عبت فيه بأنه "قد حان وقت المواجهة؛ (كنت أقصد المصارحة مع الشعب)؛ وايضاً وقت القرارات الصعبة. انَّا رأيي الشخصي اننا كوزراء يجب ان ننظر في فكرة تقديم استقالات جماعية للسيد رئيس الوزراء واتاحة الفرصة له بدون اي حرج بالتشاور مع الحاضن السياسي (او الحواضن السياسية اذا توخينا الدقة) واختيار من يراه مناسباً للمرحلة القادمة من داخل وخارج الوزارة الحالية". بعد تقديم الاستقالات اجتمع السيد الرئيس مع الوزراء كلٌ على حده وعندما أتى دوري كنت على بينة من أمري تماماً وقررت أن يكون اللقاء ودياً وسلساً وذلك لانني لم أكن أرغب في الحديث عما جرى من خلفي فذلك الظرف لعمري لا يحتمل التلاوم وقررت أن أتغابى عما حدث تأسياً بقول أبى تمام: ليَسَ الغبَيُّ بِسَيد في قوَمِهِ ... لكِن سَيِدُ قوَمِهِ المتُغَابي خاتمة: 1. لقد كتبت ما كتبت وأنَّ مُثقَل القلب وكلى أملٌ بأن ينُظر إلى افادتي أعلاه كأحد الدروس المستفادة لمستقبل الايام وأن نمضي في شأننا، حكومة وشعباً، للتفكير في المستقبل، فأنَّا وغيري من الاخوة الوزراء الذين ترجلوا ستتُاح لنا آفاقاً رحبة لتقديم ما نستطيع لبلادنَّا من مواقع أ خرى. أرجو في الختام أن أتقدم بالشكر والتقدير لقيادة قوى الحرية والتقدير وتجمع المهنيين والاخ رئيس الوزراء على تشريفي بالعمل في حكومة الثورة خلال الفترة السابقة، سائلاً المولى العزيز القدير له وحكومته الموقرة التوفيق والسداد. والله من وراء القصد.