نواصل إن شاء الله سلسلة تجاربنا التعليمية الفاشلة ؛ لنتناول هذه المرة تجربة تقسيم المدارس الثانوية الحكومية إلى "نموذجية وجغرافية" التي أُستحدثت في تسعينات القرن الماضي بولاية الخرطوم ثم انتقلت عدوتها إلى ولايات السودان كافة ؛ والتي أجمع أغلب خبراء التربية أنها تجربة تعليمية فاشلة وأسهمت بقدر كبير في ما بلغه تعليمنا الحكومي العام من تردٍ وانحطاط ، وسأسوق الحجج والبراهين لأثبت بالدليل القاطع فشلها وسوء مآلها وأنها طبخة سودانية "بلدية " غير جيدة السبك تتطلب التدخل السريع لإعادة تقويمها إذ أنها لا تزال تسهم في إعاقة مسارنا التعليمي ولا توجد فضيلة تربوية أو أخلاقية واحدة تحتم بقاءها واستمرارها طوال السنوات الماضية وذلك قياساً على مخرجاتها الماثلة اليوم في مشهدنا التعليمي ، وعلى مبتكريها -وهم أحياء يرزقون -أن يأتوا ببرهان واحد يؤكد نجاح التجربة وصدق توجهها وإلا فإن الأمر لا يعدو أن يكون نكوصاً عن الحق وتمادياً في السير على طريق الفشل وقد لا ندرك بعده كيف يكون المنتهى . ربما كان الغرض من تطبيق تجربة المدارس النموذجية في بداياتها الأولى أن تكون أنموذجاً تحتذي به بقية المدارس ثم ما لبثت أن انحرفت الفكرة عن مسارها الصحيح وأصبحت أحد مبرراتها القوية المكاسب الذاتية الضيقة وحفظ ماء وجه "التعليم الحكومي " أمام الزحف الكاسح " للتعليم الخاص" لتحتكر بدلاً منه درجات التفوق ويُذاع طلابها ضمن المائة الأُوّل في نتيجة امتحانات "الشهادة الثانوية" في نهاية كل عام فهل بهذه الرؤية السطحية والنظرة الدونية لمدارس ومؤسسات تضم في أحشائها جزءاً عزيزاً من أبناء السودان يحتكمون جميعهم لمناهج وموجهات "وزارة التربية والتعليم" يمكن أن نطوِّر التعليم ؟! ؛ بيد أن المدرسة النموذجية وفق ما نعلم ويعلم غيرنا تعني فيما تعني أن تكون نموذجية بما تقدمه من خدمات تربوية تعليمية ، وتتوفر فيها كل المعينات لتؤدي رسالتها على الوجه الأكمل ،وليست نموذجية بمفهومها الصفوي الضيق على النحو الذي يُطبق اليوم ؛ باحتكارها لقائمة التلاميذ المتفوقين في امتحانات شهادة الأساس وترك بقية التلاميذ وهم الفئة الغالبة يدرسون في ما يسمى "بالمدارس الجغرافية" التي تفتقر لأبسط مقومات الدراسة ( لاحظوا عبقرية الاسم النموذجية والجغرافية ) علماً أن هؤلاء التلاميذ الذين حظوا بهذه "النمذجة" ليس هم خيار التلاميذ ونوابغهم والذين يمكنهم أن يواصلوا رحلة التفوق إذا استوعبوا في هذه المدرسة أو تلك ، وستظل معادلة القبول للتعليم العالي ثابتة متى ما توفر الحد الأدنى من المعينات التربوية لكل المدارس دون استثناء ؛ لأن مرحلة الأساس في مجملها تعتمد على المنهج (التلقيني) في عمومياتها وأهداف المعرفة والتذكر والحفظ ؛ دون التعمق في بقية الأهداف ومستوياتها ، وإذا سلَّمنا جدلاً بسلامة وصِحة هذه التجربة ألا يستدعي الخلق الرشيد توفر العدل بين مدارس السودان كافة حتى يستعيض الطلاب الذين لم يحظوا بشرف الانتماء للمدارس النموذجية بفرصة أخرى للتفوق تماشياً مع نموهم العمري المتواصل ؟؟!!. المدارس النموذجية فكرة ماكرة من منفذي التجربة ومطبليها ؛ للهروب من مستنقع الفشل العام والتعلق بطوق النجاة بشريحة ضئيلة من جملة طلاب لا تتجاوز نسبتهم ال " 1% "من جملة طلاب التعليم العام ؛ لتفي بحاجة الجامعات السودانية في الكليات المرموقة التي تحظى بها الشريحة النموذجية دون غيرها . الآن – يا سادتي- لعلكم وقفتم على أحد معاول الهدم التعليمي الممنهج في بلادنا !! وستندهشون أكثر عند وقوفكم على تداعيات هذه التجربة الفاشلة وتطبيقها الذي أفضى إلى الانتشار السرطاني للمدارس الخاصة ؛ وأعني بذلك المدارس الخاصة غير مكتملة المعايير التي تستمد نجاحها ووجودها من الهجرة المعاكسة لمعلمي المدارس الجغرافية أثناء اليوم الدراسي ،وإذا تساوت جميع المدارس الحكومية في الحقوق والواجبات دون مسميات أو تمييز واستحدثت لائحة تضبط أداء معلمي التعليم الحكومي فستغلق كثير من المدارس الخاصة أبوابها خاصة العشوائية منها وستدب الحيوية وتعود الهيبة للمدارس الحكومية كما كان يحدث في السابق . المدارس النموذجية أعطت إحساساً وهمياً لدى معلميها بأنهم الأكثر تميزاً – ولا ذنب لهم في ذلك – لأن بعضهم يحظى بدعم معنوي ومادي من جهات رسمية وأهلية ومجالس تربوية ، ورجال أعمال يدفعون بسخاء عطفاً على انتساب أبنائهم للمدرسة النموذجية ، وهذا بدوره أحدث أثراً نفسياً سالباً لدى معلمي المدارس الجغرافية وشعوراً بالنقص والغيرة من معلمي المدارس النموذجية على الرغم أنهم الفئة الغالبة من معلمي التعليم الحكومي ؛ وهذا أدى بدوره لفقدان حماسهم وحيويتهم ، وشعورهم بالغبن والإحباط ؛ لأنهم يتعاملون مع طلاب صنفتهم قياداتهم التربوية طلاباً من الدرجة الثانية ، وكل هذا خصم على العملية التربوية التعليمية ؛ وانعدام لمبدأ تبادل الخبرات وتوزيع الفرص العادلة بين المعلمين ونقل خبراتهم التعليمية لجميع الطلاب . المدارس النموذجية أحدثت هزة نفسية عميقة في نفوس طلاب المدارس الجغرافية وقتلت روحهم لتفجير طاقاتهم الكامنة وأعدمت مبدأ التنافس الحر بينهم ، وحرمتهم من نظرية الاحتكاك والتأثر واكتساب الخبرات بالرفقة الطيبة للطلاب المميزين . المدارس النموذجية أضعفت الإدارات المدرسية ، وعمت الفوضى في المدارس الجغرافية وأُهملت الأنشطة اللاصفية وأطلقت العنان لمديريهم وأسقطت عن كاهلهم الكثير من المهام التربوية ، هذا فضلاً عن الهاجس الاجتماعي الرهيب للأسر والضغوط النفسية لبعضهم من جراء إصرار أبنائهم بالرغبة الملحة للانتساب لمدارس نموذجية بعينها( حتى المدارس النموذجية تتفاوت مستوياتها ودرجاتها!). المدارس النموذجية غيرت التركيبة "الديموغرافية " للمجتمع والتنافس على القبول في مؤسسات التعليم العالي خاصة الانتساب للكليات المرموقة في الجامعات حيث أصبحت حكراً على أبناء المدارس النموذجية ؛ علما أن النسبة الغالبة من طلاب هذه المدارس من أبناء الطبقات المقتدرة باعتبار أن النجاح والتفوق في هذه المرحلة العمرية يعتمد على الاستقرار الاقتصادي للأسرة ، وتوفر البيئة المدرسية الملائمة والمعدومة تماماً في المدارس الجغرافية ( بعض المدارس الحكومية بيئاتها أفضل من بيئات غالبية المدارس الخاصة التي قوامها المعلمون المتعاونون معها من المدارس الحكومية ) ؛ فجسدت بذلك مبدأ التفرقة بين معلمي المرحلة الثانوية وخلقت فوضى وتسيباً في أوساط معلمي المدارس الجغرافية وجعلتهم يتعاملون مع مدارسهم بطريقة المحاضرين وذلك بالعمل في عدة مدارس خاصة دون رقيب أو حسيب كما أتاحت فراغاً كبيراً لمعلمي الكيمياء والفيزياء والأحياء والرياضيات المتخصصة في المدارس الجغرافية على اعتبار أن معظم طلاب هذه المدارس يساقون للمساق الأدبي قسراً لعدم توفر هذه التخصصات في مدارسهم الجغرافية فأتاح هذا الفراغ لمعلمي المدارس الجغرافية بأن نشطوا في "الدروس الخصوصية" والتعاون مع المدارس الخاصة أثناء اليوم الدراسي ( تسيب مع سبق الإصرار والترصد ). المدارس النموذجية حرمت أبناء الطبقات الفقيرة من الطلاب من حقهم المشروع في الخدمات المميزة التي تقدمها الدولة لمواطنيها وإشاعة روح العدل بينهم ، كما أنها دمرت التعليم الحكومي بالولايات وأضعفت فرص طلابها في المنافسة الشريفة في الدخول للجامعات وكلياتها المرموقة ، ومن الممارسات الخاطئة التي ربما خافية على المسؤولين أن المدارس النموذجية تفرض رسوماً باهظة على القبول الخاص داخل هذه المدارس والأفظع من ذلك أن عدد الطلاب المقبولين في هذه الفصول يفوق عدد الطلاب المقبولين بالمجموع النموذجي ؛ مستغلين في ذلك جهل الطلاب وأسرهم وإيهامهم بأن المدارس النموذجية تملك طوق النجاة لنجاح أبنائهم وتفوقهم ، علماً أن معلميهم منتسبون لوزارة التربية والتعليم ولا توجد ميزة تميزهم عن بقية المعلمين -لا في التخصص ولا في القدرات – اللهم إلا بيئة مدارسهم ونبوغ وذكاء بعض طلابهم والاستفادة من هامش الأرباح التي يتلقونها من عائد القبول الخاص ، علماً أن المعيار الحقيقي لتميز المعلم الجاد من غيره قدرته على نجاح وتفوق الطلاب الضعاف وليس التعامل مع بعض الطلاب المتميزين … مدارس ثانوية كثيرة كانت ملء السمع والبصر جرفتها هذه التجربة "اللعينة " إلى متاحف التاريخ فأصبحت أثراً بعد عين؛ ليبقى السؤال المشروع أين تذهب المليارات التي تُحصَّل من رسوم القبول الخاص في داخل هذه المدارس وإلى أين توجه ؟! أما الأولى بها إصحاح بيئة المدارس الجغرافية التي تفتقر لأبسط المقومات بدلاً من تستأثر بها النموذجيات وحدها والدائرون في فلكها ؟، وهل يعلم طلاب القبول الخاص وأولياء أمورهم أنهم خارج إطار النتيجة الرسمية للمدرسة وأنهم يعاملون معاملة طلاب اتحاد المعلمين أو طلاب المنازل ؟ وهل سبق أن أذيع أحدهم ضمن المائة الأُوّل في نتيجة الشهادة الثانوية رغم الملايين التي يدفعونها ؟ ولماذا لم تمنحهم النموذجيات صكوك التفوق وتضييق الفجوة الأكاديمية والتباين وسط طلابها دون تفرقة أو تميز وتضع بصمتها عليهم مثلهم مثل الرسميين ؟؟ هذا لعمري خدعة مجتمعية كبرى وتحايل على القانون والأعراف وتجاوز أخلاقي لا يليق بأهل التربية !!. وأخيراً والوطن يتطلع ليكون التعليم مخرجاً لحل جميع أزماته الآنية والمستقبلية نرجو ألا يفهم حديثي هذا في غير سياق المطالبة المشروعة بتفكيك المدارس النموذجية وذوبان طلابها في منظومة التعليم العام بحيث يتوازن الأداء التربوي في جميع المدارس الحكومية وألا ينْصب الدعم الرسمي والمجتمعي لمدارس تشكل نسبة ضئيلة من جملة الممارسة التعليمية في بلادنا وذلك بإجراء تقويم شفيف لمخرجات هذه التجربة يشارك فيه العلماء والخبراء ومعلمو الميدان ويبعد عنه الأعضاء الدائمون في اللجان الذين هم أس البلاء الذي أوصلنا إلى هذا المستوى ؛ فصحيح أن المدارس النموذجية تحقق التفوق في الشهادة الثانوية نهاية كل عام ولكن تظل التجربة محددة النجاح وقصيرة النظر وصفوية التطبيق وكل هذا خصم على الأداء المتوازن لمنظومة التعليم العام وكفاءتها لتحقيق غاية التعليم السوداني وتخريج جيل ينعم بخيره كل السودان مستصحباً قيم "الحرية والسلام والعدالة" التي نادت بها الثورة المجيدة ، وتمهيد الطريق لبناء نظام تعليمي راسخ خالٍ من كل سوء . والله المستعان