الجميع كان يتسربل بملابس السجن ذات اللون البرتقالي المعروف، وأيديهم وأقدامهم مكبلة بالسلاسل والقيود متنقلين داخل العنبر جيئة وذهابا، يسبحون ويستغفرون، لعل وعسى أن يتولاهم المولى برحمته. الترتيبات لتنفيذ الحكم كادت تنتهي، فتم تبصيمهم وإعلان أهاليهم بأن الموعد قد حان، إن كان هناك وصية يوصون بها قبل التنفيذ. ومرت الأيام الأيام تمر سريعة عليهم، الجميع يسكنهم الخوف من تلك اللحظة، إلا أنه وقبيل الموعد المحدد لتنفيذ الحكم، كانت ثمة ترتيبات ومبادرات تجري على قدم وساق منذ أشهر طويلة من إمارة البرقو الصليحاب بولاية الخرطوم وعدد من العمد والمشائخ والأمراء والوكلاء مع أولياء الدم من قبيلة التنجر.. المبادرات ظلت تتعثر وتتعثر، وكلما زادت العثرات ازداد التمسك بالأمل في الوصول إلى حل يقي أبناءهم حبل المشنقة. الاختراق أو ربما هو الفرج تحقق فجأة قبل الموعد المضروب بالحكم القضائي، بأن وافقت وعن طيب خاطر قبيلة التنجر على قبول الدية والعفو عن المتهمين وسط فرحة كبيرة من أهاليهم، ليتنفس بعدها النزلاء الصعداء ويغمرهم شعور الحرية بعد أن أعلن القاضي الإفراج عنهم ليغادروا السجن والسعادة تكاد تقفز من أعينهم. أصل الحكاية وتعود التفاصيل إلى نزاع بسيط حول الأراضي وقع بين عدد من أبناء البرقو الصليحاب وعدد من أبناء التنجر الذين أكدوا وجود مساحات لهم في تلك الأراضي، ليحتد النقاش متطورا إلى خلاف بينهم لم يجد حكمة تحتويه، فكانت النتيجة قتل شاب من قبيلة التنجر، وتتواصل التداعيات وصولا إلى سوح القضاء، ليتم القبض على سبعة من أبناء الصليحاب، ويصدر في مواجهتهم حكمٌ بالإعدام، وأثناء ذلك انتقل أحدهم للرفيق الأعلى داخل السجن، ليقضي الستة الباقون (6) سنوات داخل السجن، قبل أن تتدخل الإدارات الأهلية في سعي دؤوب مع أولياء الدم حتى تم العفوعنهم. ماذا قال المفرج عنهم؟ بعد الإفراج عن المحكومين بالإعدام بالعفو، حرصت (السوداني) على الالتقاء بهم لنقل تجربتهم في سيناريو يؤكد قيمة (العفو عند المقدرة) التي ربما تسهم انتقال العدوى للخلافات المماثلة. ابتدر الحديث محمد إبراهيم مالك مستدعيا اللحظات الصعبة، ويذهب في حديثه ل(السوداني) أمس، إلى أنه من أبناء قرية القرنة بشرق دارفور، واصفا الفترة التي قضاها في السجن بالعصيبة، قبل أن يتم ترحيلهم إلى سجن الضعين بعد الحكم عليهم بسنتين ودفع الدية، واستدرك: لكن تم تكسير ذلك الحكم ويتجدد بحكم الإعدام ليتم ترحيلنا إلى سجن كوبر ومنها إلى سجن بورتسودان ثم إلى سجن الهدى.. وكشف مالك أنهم قدموا استئنافات تزامنت مع تدخل الإدارات الأهلية التي "كللت مجهوداتها بإطلاق سراحنا". من جانبه تحدث المفرج عنه أحمد أبكر موسى، مؤكدا أن "ما حدث من خلاف بيننا وأهلنا التنجر لم نكن نتمنى أن يصل إلى هذه المرحلة، إلا أن الشيطان كان أقوى".. واعتبر الفترة التي قضوها بالسجن كافية لإصلاح النفس والتعامل بنقاء مع الجميع، وأضاف: "هي إرادة الله". العم يعقوب منصور آدم تحدث بصوت هادئ وعيون مترعة بالدموع، ويذهب في حديثه ل(السوداني) أمس، إلى أنه صاحب مطعم معروف في القرية، وأنه عندما وقعت المشكلة لم يكن موجودا في القرية، وأضاف: "تم إقحامي في المشكلة وسجني حتى مرضت داخل السجن، وما أزال أعاني من المرض ولا أستطيع أن أقول سوى أنها أقدار مسطرة، مؤكدا أن فضل إطلاق سراحهم يعود للعمد والمشائخ من كل ولايات السودان الذين وقفوا وقفة رجل واحد ومدوا حبل الصبر حتى يتم إطلاق السراح. فيما تحدث العم أبكر موسى بحرقة ل(السوداني) أمس، مؤكدا أنه نشأ وتربى في قرية القرنة، وأنه لم يحدث أن وقعت مشاكل قبلية، لجهة أنهم يعيشون في سلام، وأضاف: مشيئة الأقدار أن يحدث بيننا وأهلنا التنجر مشاكل في الأرض ليتطور الأمر لاشتباك ففقدوا واحد من أبنائهم. من جانبه أكد إسماعيل عبد الله محمد في حديثه ل(السوداني) أمس، أنه كتاجر يعمل في كمائن الطوب الذي يقوم بتوزيعه في كل المناطق وأنه لا علاقة له بالمشكلة من قريب أو بعيد وأضاف: لكنها القسمة جعلتني في ذلك الموقف. المفرج عنهم عبروا عن شكرهم العميق للإدارات الأهلية ولإمارة الصليحاب وللتنجر الذين سعوا لحل المشكلة بين الأطراف. القيادات الأهلية عدد من الإدارات الأهلية التي قادت مبادرة الصلح تحدثت ل(السوداني) أمس، منهم وكيل إمارة الصليحاب قمر أحمد آدم الذي أكد أنه في الفترة الماضية حدث احتكاك بسيط بين الصليحاب والتنجر في المراعي، قاد إلى تدخل ناظر عموم الرزيقات وأعضاء في الولاية ليتم تكوين لجنة عليا لاحتواء الخلاف، كاشفا عن أن المسألة لم تأخذ الطابع الصحيح، وتمت الإدانة والحكم بالاعدام. مؤكدا أن بداية المبادرة جاءت عقب اتصال عمدة أبناء الضعين بالخرطوم عبد الله عيسى، الذي جاء بخطاب وشرح ما حدث. وأضاف: بصفتنا إمارة ولاية الخرطوم وبصفتي وكيل أمير إمارة الصليحاب بولاية الخرطوم تحركنا من الخرطوم إلى الضعين بشرق دارفور ووفد آخر من نيالا برئاسة العمدة أحمد التجاني أبوسعدية وعمدة أبناء التنجر آدم إبراهيم، مشيرا إلى أنه تم استقبالهم بصورة ممتازة، وأنهم جلسوا أكثر من جلسة حتى تم أخيرا العفو. مؤكدا أن أبناء التنجر أوكلوهم على الرغم من أنهم هم أولياء الدم ووافقوا على العفو، كاشفا عن أنهم توصلوا إلى حل عقب أكثر من 13 اجتماعا مع الطرفين، كما تم دفع الديات وتقييم الخسائر، وأنه تم عمل اجتماع موسع ضم القبيلتين للصلح، وتم التوقيع على وثيقة رسمية تاريخية. فيما أكد رئيس لجنة التفاوض الأمين العام لإمارة البرقو الصليحاب أحمد آدم عشر في حديثه ل(السوداني) أمس، بأنهم سمعوا بالخبر مؤخرا، فعقدوا عددا من الاجتماعات، وأضاف: تم تكليفنا بالسفر إلى الضعين لحل هذه المشكلة بعد أن علمنا أنه نفذت كل مراحل التقاضي ولم يتبقَّ إلا المحور الخاص بالتفاوض مع الإدارات الأهلية فتحركنا في وفد يتكون من 7 أشخاص في رمضان الماضي، وعقدنا حوالي 23 اجتماعا برعاية وكيل ناظر الرزيقات، لعقد مصالحة بين قبيلة البرقو والتنجر بإشراف تام من حكومة الولاية ونظارة الرزيقات وتم الاتفاق على أجندة معينة نُفّذت كلها. من جانبه تحدث مسؤول الدّيات في الإمارة هاشم حسن ل(السوداني)، مؤكدا أنهم كإمارة في ولاية الخرطوم مسؤولون مسؤولية تامة عن الأهل في الولايات بالعمل على إيجاد الحلول لكل المشكلات وبرضا تام من القبيلتين، وقال: "نحن كإدارات أهلية نعمل على حل المشكلة من جذورها، مع العلم بأن القضاء يفصل فيها ولكننا كرجالات إدارة أهلية يجب أن يكون التراضي من الطرفين وهذا ديدننا في العمل لرتق النسيج الاجتماعي والتعايش السلمي ونتمنى من الحكومة أن تقف مع الإدارات الأهلية لحل مشاكل الناس".