في ظل واقع الطبقة السياسية المتنفذة حاليًا، (ودون حاجة لتفصيله)، ستتحول اغلب الدعوات للاصلاح المؤسسي مع كل تغييرات في الكراسي الى طريق للمحاصصة وليس للاصلاح ابدا، وقد تفيد في النهاية بشكل يدعم نصيب اصحاب هذه الدعوات من الكراسي، باكثر من تحقيق اي مصلحة عامة عبر عملية الاصلاح المؤسسي، التي قد تهدد المكاسب التي حققتها هذه الدعوة الى الإصلاح، وليس من مثال افضل من تحول شركاء سلام جوبا من دعواتهم الى اصلاح الحرية والتغيير الى المنافسة معها وتحديد حصتهم منفردين في السلطة بعيدا عن اي مسار يدعم نظرة كلية لادارة الانتقال. ويدعم هذه النظرة من خلال ايجاد بناء سياسي مؤسسي اقدر على ادارة اختلافنا وخلق مرجعية للتوافق من خلال الممارسة السياسية وادواتها، والاهم هو وقاية الجهاز الرسمي للدولة من هذه الاختلافات التي ستحكم اداء الادارة الحكومية بشكل اكثر مما هو حادث الآن، لتهدد الانتقال بشكل أكبر. ومع قدوم سياسيين حزبيين للحكومة سنرى حجج تداري الفشل بأكثر مما يتيحه خيالنا الآن، ومهما كان قدوم ولاة مدنيين وفق نهج المحاصصة الحزبية هو ردة عن سبل التوافق الوطني والادارة الامثل كشف عنه اداؤهم وان لم تكتمل قتامة المشهد، لكن تعيين هؤلاء الوزراء الحزبيين سيكون بمثابة رصاصة الرحمة على الانتقال. لن أكون حزبيا باكثر من رئيس حزب الامة الراحل الإمام الصادق المهدي طيب الله ثراه، والذي اجاب ابنته المنصورة عندما اعترضت عن عدم ترشيح حزبيين ان وجدت الكفاءة للمناصب الدستورية التنفيذية محتجة بان هذا اشبه بمعاقبتهم على انتمائهم الحزبي، فاجابها بحسم: "الحزبي يكافأ بالانتخاب" واسترسل الإمام بحكمة في كون معيار الكفاءة ضروريا في كلا الحالين وشرط لا بد منه، حتى انه نفى بشكل قاطع من كون ترديد الكفاءات المستقلة مقابل الحزبيين يراد منها كون الكفاءة لا يجب ان تتوفر في الحزبي، واظن انه كان يحمل رؤية متكاملة للدور الذي يلعبه السياسي المنتمي من خلال خطابه لدكتور إبراهيم البدوي بعد خروجه من التشكيل الوزاري في الانتقال، والذي اوضح فيه كون ترشيحه ابتداءً لم يكن بسعي من حزبه، ولكنه طلب منه البقاء في الوطن وتوفير فرص الاستفادة منه وتوظيف معرفته من خلال المساهمة في رسم السياسات وبذلها واثراء الحوار حولها. وغير كثيرين يرون في الفترة الانتقالية ان واجب الحزبيين هو الاستعداد للانتخابات اجدني اميل لدور حيوي لهم على غرار ما رسمه الامام للدور الذي نصح به د. ابراهيم البدوي، في رسم السياسات ومناقشة خطط الدولة وإستراتيجياتها ودعم وظائف الانتقال والحكم بالافكار، ليس فضولا منهم او تطوعا من الحكومة، ولكن من خلال مؤسسة سياسية فاعلة كان يجب ان تكونها قوى اعلان الحرية والتغيير كمظلة سياسية وقيادة مرجعية للانتقال السياسي والتحول الديمقراطي قبل ان تختطفها التيارات السلطوية داخل كل طبقتنا السياسية باحزابها ومهنييها ومدنييها، وتعطيها هذا التعريف البائس؛ "الحاضنة السياسية" والذي يفضح بؤس من يرددونه ويقبلونه على انفسهم! الحرية والتغيير ليس ثلاثة اشخاص في ثلاثة احزاب ورابعهم مهنييهم، ولكنه تحالف فشل كل هؤلاء في ادارته وان نجحوا في مصادرة صوته، وبقدر ما نجحوا في عزل الجبهة الثورية في مرحلة عادت اليهم باقوى مما كانت تطالب به، ويقدر ما تحايلوا بالناس وعلى الناس انقلب الناس عليهم، وهذا من ضيق الافق الذي يصيب منه صاحبه بقدر ما لا يسع غيره، حتى يعجز الناس صبرا معه فيصير الى ما صار اليه غيرهم. ولكن الحرية والتغيير كانت طيف واسع متعدد ومختلف بتعدد واختلاف قاعدة الثورة الجماهيرية وحواضنها الاجتماعية، قبل الناس بتمثيلها للثورة فاصابهم من فقر خيالها وقلة حيلتها ما اصابهم منذ بداية التفاوض فلم يرقوا من تمثيل الناس لقيادتهم ابدا حتى دفع الناس كلفة فض الاعتصام، ولم ينفذ صبر الناس بهم بعد فاعادوا اليهم الكرة بكرة الثلاثين من يونيو قبيل توقيع الاتفاق السياسي في يوليو 2019، لينالوا من بؤسهم اقل مما كان قابلا للتحقيق شأن مخيال السياسي الذي لا يتعلم بالتجربة ولا تكون خلياؤه بغيره مزهوا بنفسه يعدم الزهد في صغائر الامور كما افتقر الجهد عند عظائمها، فصغر كسب الناس بكسبه لنفسه فاعجزهم صبراً، وصارت قوى اعلان الحرية والتغيير الى قحت وقحط، وبدلا من ان تعيد تعريف المصلحة عند من انحازوا للثورة من قوى رسمية لمصلحة المستقبل انحازوا للحاضر في العودة بالامر الى ما كان عليه، فلا طلنا مدنية الحكم بعد ان صار شركاء الانتقال الى مجلس "عسكرتاريا" اغلبه برتبة الفريق وما فوقها من الفرقاء، وصارت مطالب العدالة من جور نظام أفل الى مطالب من نظامين لم يوقف الحنين اليها سيل الدماء التي يهدرها غيابها حتى هذه اللحظة. وهاهي "قحت" الآن تبذل آخر ماء وجهها بتنصلها عن كل ما أعلنته أساساً لتوافقها مع الناس وبعد ان صارت الى اربعة ممن كانوا في سدتها بعدما تحايلت على كل دعوات البناء المؤسسي والاصلاح، و ليس من العيب في الشأن العام ان تعود من منتصف الطريق اذا كان طريقا خاطئا، ولكن لكونك وصلت منتصفه فهذا لا يجعل الطريق جانياً وانت الضحية، ومراجعة الخطأ هو ما يتيحه اي نظام مدني بالمناسبة وعكس الانظمة الشمولية تتيح الانظمة التي تسعى للديمقراطية ابقاء كلفة الاخطاء على الخطأ وحده، دون كلفة في التبرير اليه باعتزال الخطأ وعزل متسببيه وبما تتيحه الشفافية في هكذا نظام من المحاسبة والمسؤولية وبالقدر الذي يجعل للخطا قيمة إضافية في التعلم واكتساب الخبرات متى ما وجدت المؤسسات التى تنتج ذاكرتها بعيدا عن جنوح الافراد للتبرير. لذا من الخطل الآن الرهان على من اختطفوا تمثيل الثورة في مجلس قحت الحالي وتقديم أي منهم سواء أن كانوا سياسيين صريحي الانتماء او مستقلين يخفون انتماءهم الحزبي، ودعك من الحجة البائسة كون الجبهة الثورية ستدفع بسياسيين في حصتها، كأنما لم يتم الاعتداد بهذا من قبلهم من قبل على سبيل الخطأ، اذ لن يجعل تقديمه على انه صواب في غير تاكيد قدرتهم على انتاج الاخطاء، ودون هذا التربص بقدوم سياسيي شركاء السلام لطاقم الحكومة على شاكلة ارث شراكات المؤتمر الوطني في السابق، يظل الفشل السياسي في ادارة قوى الحرية والتغيير هو الرصيد الوحيد للقادمين من قحت للتشكيل الوزاري، والذي لن يكون غير طلب الندامة!