تلبسني هاجس كتابة الشعر منذ أن خطوت نحو عتبات الشباب الأولى يدفعني تأجج العاطفة وتدفق الأحاسيس الندية. كانت الساحة الأدبية في العالم العربي تتلألأ بنجوم قامات أمطروها بحروف وكلام يأخذ الألباب خصوصا وانه قد بدأت موجة الشعر المرسل تنداح فتتدفق كلاما جميلا ومفاهيم جديدة. كان هنالك نزار قباني يكتب الروائع: اختاري او لا تختاري ما بين الموت على صدري او فوق دفاتر أشعاري لا توجد منطقة وسطى ما بين الجنة والنار وأذكر انه عندما زار الخرطوم اوائل السبعينات أقام ليلة شعرية في (نادي أساتذة جامعة الخرطوم) وامتلأت الدار حتى فاضت فتسلق معجبوه الأشجار يطلون على الشاعر الرقيق مثل الطيور البيضاء. ثم جاءت دكتورة (سعاد الصباح) فتدافع عشاق الشعر يستمعون للأميرة التي تقول شعرا يدخل القلوب بلا استئذان. وفي السودان نفسه كان هنالك عمالقة سبقهم عمالقة صلاح احمد إبراهيم ومحمد عبد الحي وجيلي محمد صالح والفيتوري ومن قبلهم التجاني يوسف بشير وجماع. كل هؤلاء واولئك أثروا الساحة بنظم بديع انفتحت له قلوب المستمعين فحفظوه عن ظهر قلب. وفي نفس الوقت كان هنالك عمالقة عظام كتبوا الشعر التقليدي بتجويد مدهش وحولهم حراس اشداء يحرسون قلاع الشعر القديم ويذودون عنها ويدافعون بالقلم وأذكر انه قد نشبت معركة حامية الوطيس بين طه الكد احد حراس المعبد التقليدي وأبو آمنة حامد احد شعراء الحداثة الذي مس دكتور عبد الله الطيب مسا خفيفا بالنقد فانبرى له الاديب طه الكد ودبج مقالات فيها هجوم شرس عنونها بعنوان مثير (هتر ابو آمنة الهاتر) وكان الناس يتسابقون لشراء صحيفة (الأيام) التي نشرت المقالات فور صدورها. كانت الأيام جميلة والحياة سهلة ليس فيها رهق اليوم ولا معاناة البحث عن الضروريات فلم يكن كيلو اللحم يتجاوز ثلث جنيه فقط وكنا نشتري ربع الرغيفة محشوة بالطحنية بقرش صاغ فتشبعك وربما تستعين بصديق فتكملاها معا. تلك أيام باركها الله وسقاها مزنا هتونا وريحا طيبة. ولا ننسى أن الشعراء التقليديين برغم صرامتهم اللغوية كانوا أصحاب طرائف ولذائذ واذكر أن دكتور عبدالله الطيب عندما أصدر النميري امرا بتعيينه مديرا لجامعة جوبا في بداياتها أن علق ساخرا (الآن حق لنا أن نقول جوبا مالك عليا) وكانت تلك اغنية ترددها الفتيات: جوبا مالك عليا جوبا جوبا شلتي عينيا جوبا ثم عندما نقل أيضا للجامعة الإسلاميةعميدا ل(كلية الآداب) ان علق بنفس السخرية (خرجنا من مكر الافندية إلى مكر الشيوخ) ومعروف أن العمل الاداري فيه المغارز والفتن. جاءت هذه الفترة أيام الحقيبة وشعرائها العظام الذين كتبوا شعرا بالدارجية السودانية غاية في الروعة والإبهار فاسمع (ود الرضي) وهو يقول: شالو حلوقن ادوهن قصيبات رقن وشالو خدودن أدوهن ورود اتسقن شالو عيونن ادوهن كهارب بقن وانا من الريده ما ادوني غير اتيقن (القاف في نهاية كل الابيات عليها الشدة) – ثار جدل مؤخرا عن أن هذه الأبيات من نظم شاعر شاب اسمه عزام عبد العاطي غير أن فيها انفاس الشاعر ود الرضي – فانظر كيف أن الشعر الشعبي وشعراء الحقيبة نافسوا شعراء الفصحى وكتبوا كلاما غاية في الرقة والنعومة. أن السودان بلد مليء بالمبدعين في كل مناحي الفن وليس الشعر وحده ولكن الإعلام عن مبدعينا ضعيف وما باليد حيلة وبرغم ذلك فقد تجاوز شعرهم الحدود واذكر أن شاعر العامية المصري العظيم (احمد فؤاد نجم) قد سألوه مرة عن من هو خليفته في شعر العامية فأجاب دون تردد (انه شاعر من السودان اسمه محمد طه القدال) فتخيل كيف أن شعر القدال قد اخترق الحدود وبلغ مسامع شاعر في عظمة (احمد فؤاد نجم) والمصريون قد برعوا في كل ضروب الشعر من الفصيح للشعر العامي الذي يردده رجل الشارع وقد هزتني أبيات كتبها شاعر مصري شاب يرثى فيها الشباب الذين استشهدوا في (ثورة يناير). تأمل رقة هذه التعابير وعذوبتها: (صباح الخير على الورد اللي فتح فى جناين مصر). هذا كلام يهز الوجدان ويدفع الدموع للمآقي. مناسبة كل هذا (الدش) -بفتح الدال- وتعني عند أهل الخليج الكلام الكثير انه قد وصلتني رسالة من إحدى قريباتي وقد قرأت مشاركاتي في صحيفة السوداني مؤخرا تقول فيها ثلاث كلمات (مبروك بقيت شاعر) فتعجبت إذ أن ما كتبته كان نثرا ولكنها خلطت خلطا مخلوطا بين النثر والشعر فلم تفرق بين هذا وذاك فاعتبرتها (نيران صديقة). قلت في البداية انني في بواكير الشباب قد تملكتني رغبة جارفة أن اكتب الشعر فجلست وسهرت الليالي وكانت النتيجة ابياتا مهلهلة كأنها مربوطة بصواميل كل واحدة من مقاس مختلف فعرفت أن هذا ليس مجالي فبقيت اكتب النثر والقصة ولم اشأ أن اتعرض لما تعرض له احد الذين كتبوا ما سماه شعرا فهجاه احد أصدقائه قائلا: يا فلان شعرك كلو هظار ولو حضرت الزمن الأول لهجاك بشار كفايه دعايه يا ثرثار ديوانك لا يصلح وقود للنار وكلماتك لا تساوي في قيمتها صندوق سجار فلم اشأ أن اكتب (هظارا) فيهجوني الأصدقاء قبل الأعداء فتوقفت في المحطة الأولى وسلامتكم.