مفاجأة لم تكن في الحسبان تلك التي نطق بها نائب الامين العام لحزب المؤتمر الشعبي د. بشير آدم رحمة بالمنتدى العلمي الاول لكلية القانون بجامعة النيلين الذي حمل عنوان (دبلوماسية الحدود بين السودان واثيوبيا) الأسبوع الماضي لدى قوله إن حزبهم الآن يعمل على الوحدة وأن للإسلام رباً يحميه.. حديث رحمة لم يذهب بعيداً عما تكتنف تيارات الاسلام السياسي من مراجعات وربما خطوات أكثر جرأة كتلك التي تبنتها حركة النهضة التونسية قبيل أعوام حينما أعلنت تبنيها للعلمانية، في خطوة وصفها المراقبون حينها بأنها أكثر القفزات اتساعا في أطروحات الإسلام السياسي.. تغييرات في المشهد تغير المشهد السياسي بالبلدان العربية بعد حلول الربيع العربي الذي غير انظمة الحكم واطاح بديكتاتورياتها، وتراجعت وفقا لذلك ايدولوجيا عدد من التيارات الفكرية والسياسية، وقد كان الإسلام السياسي في المقدمة بحكم ما حدث بعدد من الدول.. السودان لم يكن بعيداً عن ذلك التراجع الذي بدا جلياً في تصريحات الإسلاميين من مؤتمر شعبي والتيارات المعتدلة الاخرى التي كان آخرها حديث القيادي الاسلامي نائب الامين العام لحزب المؤتمر الشعبي د. بشير آدم رحمة بالمنتدى العلمي الاول لكلية القانون بجامعة النيلين الذي حمل عنوان (دبلوماسية الحدود بين السودان واثيوبيا)، وقوله إن حزبهم كان يعمل من اجل وحدة السودان وعدم التراجع عن ما وصلنا اليه في الإسلام، مشددا على انهم الآن يعملون على الوحدة وأن للإسلام رباً يحميه.. تنبؤات سابقة المراجعات الحالية التي اكتنفت التيارات الفكرية غض النظر عن انتمائها لمعسكر الإسلام السياسي أو عدمه، إلا أنها كانت متوقعة من أواخر العشرية الأخيرة للقرن الماضي، تحت عنوان تراجع الأيديولوجيات وهي ما عبرت عنه أطروحات المفكر السياسي الأمريكي صامويل هنتنغتون الذي تركزت مجالات أبحاثه حول الحكومة الأمريكية وتحليل عمليات إرساء الديمقراطية، والسياسات العسكرية والاستراتيجية، والتقاطع بين العسكر والحكومة المدنية، والسياسات المقارنة، والتطور السياسي، واشتهر ايضا بأطروحته حول "صراع الحضارات"، التي يرى من خلالها أن "صراعات ما بعد الحرب الباردة لن تكون بين الدول القومية لعوامل سياسية أو اقتصادية أو أيديولوجية، لكن توقع أن تظهر مواجهات حضارية لأسباب دينية وثقافية. وحذر صامويل هنتنغتون في بحث له بعنوان "مقاربات نحو سياسة بعيدة عن الضغوط" أنجزه عام 1973 من مخاطر التحول السياسي السريع للحكومات الجديدة نحو الليبرالية، مقترحا أن تمدد تلك الحكومات فترتها الانتقالية نحو الديمقراطية الكاملة. واشتهر أيضا بتحليله للعلاقة بين العسكر والحكومة المدنية، وأنجز في هذا الصدد بحوثا بشأن الانقلابات العسكرية التي تشهدها بعض الدول. ماهي تفسيرات الشعبي؟ القيادي بحزب المؤتمر الشعبي كمال عمر استبعد حدوث تغيير في خط الحزب، مشيرا الى انهم حزب مؤصل على قيم الدين ولذلك مقولة (ما لقيصر لقيصر وما لله لله) لا يؤمنون بها لجهة انها هي العلمانية وفقط يؤمنون بالله ويعبدونه في السياسة وفي الاجتماع والحياة العامة والخاصة. وقطع عمر من خلال حديثه ل(السوداني) بانهم حماة الدين في الدنيا، منوها الى أن الحزب نشأ من اجل تجديد الدين في الحياة العامة. من جانبه يذهب الأمين السياسي ل(الشعبي) عبد الوهاب أحمد سعد في حديثه ل(السوداني) الى إن حزبهم قام على قواعد الدين، ومنهجه إسلامي ويتبنى نشر القيم الإسلامية في الحياة السودانية، لافتا الى هذا يمثل رسالة الحزب والهدف الذي قام عليه الحزب وان اي تجاوز سوف يجعل الحزب خارج الوجود والسياق التاريخي الذي قام عليه. واوضح سعد أن د. بشير وكل فرد من الشعبي مؤمن بهذا المنهج لا يوجد مجال لشخص ليقول تم التراجع عن القضية الدينية، منوها الى أن د. بشير قال له انه ذكر في الندوة نصا أن المؤتمر الشعبي متبني عدم تجزئة السودان وعدم انحسار المعاملات والشعائر الدينية بمعنى (اننا سندافع عن القضية الإسلامية وفي ذات الوقت سندافع عن القضية الوطنية). واضاف سعد: قد اشار بشير الى اهل السودان بان حماية السودان مسؤوليتكم وان للإسلام ربا يحميه بمعنى لو تفرق فإن الله سيبعث آخرين اقوى من المؤتمر الشعبي واصدق منه وسيعيدون الإسلام الى سيرته الاولى . ليس تخلياً نائب رئيس حركة الاصلاح الآن حسن عثمان قال ربما يفكر (الشعبي) في أن الاولوية الآن جمع الناس وبعد الانتخابات يدعو لمبادئه وهذا لا يعني انهم تخلوا عن الدين. وقطع عثمان في حديثه ل(السوداني) بأن بعد الانتخابات ستدعو كل مجموعة لمبادئها وسياساتها التي ستنتهجها، مشددا على أن الحكومة الآن تعمل وفقا لايديولوجياتها بتحطيم الدين ولا يكترثون لمعاش الناس واقامة الانتخابات وبقية مهام الفترة الانتقالية. وتابع: الحديث عن تصريحات من إسلاميين ضد مبادئ راسخة للإسلاميين كتأييد التطبيع أو غيره يعبر عن افراد وليس تيارات مجددة داخل التيارات الإسلامية. القانوني والإسلامي د. هاشم الجعلي يرى أن الحركة الإسلامية تم حظرها وتجريم شعاراتها باعتبار أن المؤتمر الوطني ذراعها السياسي وكذلك معظم قيادات الحركة وكوادرها بالسجون. محاولات اقصاء واوضح الجعلي في حديثه ل(السوداني) أن نشاط حزب المؤتمر الشعبي ليس به مخالفة للقانون عدا قوانين التفكيك، لافتا الى أن الدولة تتوجه سيرا نحو اقصاء الإسلام من الساحة السياسية ومن التفاعل مع الواقع السوداني ككل ووضح ذلك من خلال تعديل القوانين كقانون الاجراءات الجنائية. واضاف أن الوثيقة الدستورية كانت اول انعطاف خارج الاطار الإسلامي فقد كان هنالك دستور ينص بصريح العبارة على أن الشريعة الإسلامية مصدر الأحكام والقوانين والتشريع بالسودان وعمدت الوثيقة الى حذفها وكانت هذه بمثابة الخطوة الاولى لإبعاد الإسلام واقصائه. وتابع: تطبيع الحكومة مع اسرائيل من غير محاذير وضوابط بالاضافة الى توقيع السودان على الاتفاقية الابراهيمية للتعايش بين الاديان. تيارات أخرى وغض النظر عن صحة التحليلات التي ترى أن الإسلاميين أو تيارات الإسلام السياسي في السودان ربما تجنح نحو تجديد خطابها خصوصا بعد تجربة ال30 عاما الموصوفة بالمؤسفة، الا أن كثيرين يستبعدون مصداقية هذا الجنوح أو ذلك التراجع. ويدللون على عدم اقتناع الاسلاميين بمراجعة خطابهم أو اطروحاتهم، بظهور الحركة الإسلامية في المشهد. ويذهب المراقبون الى أنه بعد سقوط نظام الإسلاميين فى العام 2019 غابت الحركة الاسلامية عن المشهد، قبل أن تعود بضع مرات الى المشهد على حياء، بيد أن الظهور الأخير لأمينها العام المكلف علي كرتي فى تسجيل صوتي دعا فيه المواطنين للخروج إلى الشوارع لإسقاط الحكومة الانتقالية ومواصلة الحراك "سلميا" مع المحافظة على الممتلكات، وذلك عقب حملة توقيفات طالت أعضاء بالحركة والمؤتمر الوطني. وقال كرتي، في التسجيل الذي بثه عبر مواقع التواصل الاجتماعي: "الشرفاء الوطنيون والعقلاء من أهل السودان.. اخرجوا للشوارع والطرقات فهذا حقكم، أسمعوا صوتكم للعالم عبر كل وسيلة مشروعة". وأضاف: "عبّروا في حراككم بطريقة سلمية، حافظوا على ما شيدتموه من مؤسساتٍ ومرافق عامة، وعلى ممتلكاتكم من مستشفيات ومدارس وغيرها من المؤسسات الحكومية". ودعا كرتي أجهزة الدولة الأمنية إلى حماية الممتلكات العامة والخاصة ومنع التخريب. وأشار كرتي إلى أن الحركة الإسلامية اختارت في الفترة السابقة الصبر وأعلت صوت الحكمة "رغم ما أصابها من عنتٍ وتضييقٍ وتشريد واعتقالات جائرة وتعدٍّ سافر على حقوقها". مراقبون ذهبوا إلى أن الحركة الإسلامية ما زالت تعيش على الماضي ولم تخضع من تجربة حكم البلاد لثلاثين عاماً وما صاحبها من اخفاقات لتقييم شفاف، ودراسة معمقة، واعتبروا بيان كرتي خصما وليس اضافة للحركة الإسلامية التي كان يجب أن تعتذر بكل شجاعة عن الاخفاقات والانتهاكات الجسيمة التي صاحبت تجربتها فى الحكم. تحليلات اخرى رؤى كثيرة ومتعددة تكتنف الساحة في محاولة لسبر اغوار مستقبل الاسلاميين عامة واجسامهم التنظيمية خاصة بعد التطورات التي يشهدها العالم بتراجع الايديولوجيات لصالح الانفتاح، ويرى البعض أن عجز ميكانيزمات الخطاب الديني نفسه تقف حائلا دون اعمال مناهج التجديد التي قفزت الى ما بعد البنيوية والحداثة واتجهت بكلياتها للمنهج السلوكي وما بعد السلوكية. فيما ترى فئة اخرى ان الاسلاميين في السودان قادرون على اعادة تجديد خطابهم بما يتوافق مع الواقع، مشترطين للنجاح في ذلك ان تتواضع كل تيارات الاسلام السياسي وتقر بخطأ التجربة بل والفلسفة القائمة على اعادة صياغة المجتمعات من اعلى الى اسفل، واستصحاب قيمة التواضع التي يحض عليها الدين الاسلامي نفسه دون استعلاء ومكابرة بعدما انكشفت عورة خطابهم الفكري والسياسي بسقوط نظامهم. ويدلل اصحاب هذه الرؤية على ما نجحت فيه تجربة اردوغان بتركيا وما اتسمت به من اتساق مع قيم المجتمع وليس الاغتراب الذي يعيشه الاسلاميون في السودان.