نحن أبناء الأقاليم.. والوافدون مثلي كثر.. لا نطيق الصبر بعيدا عن ديارنا.. قد أكون قد سبقت بعضهم بالحضور إلى العاصمة. كان ذلك في بداية ستينيات القرن الماضي.. لم يبق في الذاكرة من تلك الفترة غير "الترماج" و"جنينة النزهة" والفرقة الإثيوبية في المسرح القومي.. والتلفاز.. مررت بها في منتصف الستينات قادماً من الأبيض، عبرت بها إلى غابة "الخوجلاب" أبحث عن ريشة خضراء تؤهلني بأن أكون معلماً للكشافة التي كان لغيابها عن كسلا وحضورها الطاغي في الأبيض حافز كبير للانضمام لاولئك الشباب.. وكان لي ما أردت.. ريشة خضراء ولقب مساعد معلم في مدينة الأبيض التي كانت الحركة الكشفية فيها تلي العاصمة مباشرة وذلك بوجود عمنا "المعلم الكبير" آدم أبو البشر عليه رحمة الله وشبابها مثل مكي محمد بابكر وجعفر أحمد عبدالرحيم ومصطفى سيد أحمد وغيرهم من أبناء مدرسة النهضة.. عدا جعفر، الذي كنت مساعده في فرقة كشافة المدرسة الأهلية الوسطى الذين كان من ضمنهم فتح الرحمن عباس أمير قبيلة الشويحات وغيرهم ممن صاروا نجوماً في المجتمع. وفدت إلى الخرطوم عام 1968م، "متوهطاً".. طالباً في جامعة القاهرة فرع الخرطوم.. لم تشغلني "الكمان" وحراسة المرمى والصحافة والسياسة عن دراسة التاريخ حتى جاءت لحظة نقطة التحول في حياتي بالالتحاق بالكلية الحربية.. ما ندمت يوماً على اتخاذ هذا القرار، فككت أسري من الدراسة الأكاديمية ولكني اتخذت من التاريخ رفيقاً من خلال البحث والتنقيب بلا قيود أكاديمية لم تكن ستوفر لي دراسة "نمر.. آخر ملوك شندي" أو "حلال المشبوك الإعلامي الأول" أو "دون كيشوت الفرنسي في حاضرة المك" أو "فوز بين الخليل وحي السوق والموردة" أو "الخبر اليقين في مقتل السلطان تاج الدين" أو "عبقرية المكان في درة شرق السودان" وغيرها ولا أظن أن المدرجات كانت ستمنحني أوراقي الإثيوبية التي أعتز بها كثيراً. انتمائي للقوات المسلحة أتاح لي "الحوامة" في ديار الوطن غربه وشرقه، شماله وجنوبه وكان في ذلك زاد منحني ثقافة الوطن وعمق في نفسي روح الوطنية وفتح لي فضاءات العالم مسافراً، دارساً وإعلامياً وكان في ذلك فوز كبير لن تتيحه لي أي وظيفة أخرى. هذه خاطرة طافت بي والدنيا عيد.. قضيته في غرفتي لم أغادرها طيلة أيام العيد، قضيتها بين كتاب بالانجليزية عن تاريخ أثيوبيا الحديث 1855-1991م، وبين أريج ديوان المتنبئ ومحمود درويش مما عوضني عن قضاء العيد في كسلا، التي لا أذوق طعم العيد في غيرها.. وأفتقدت صلاة العيد في الختمية.. وسلات الضحية.. وصحبة الأهل والعشيرة والأصدقاء.. وكان عيداً ماسخاً بطعم مدينة الترك. استمعت إلى علي إبراهيم في إحدى أمسيات العيد وهو يتغنى لكسلا وطير الخداري.. غابت كل ذكريات طفولتي وصباي وشبابي وبرقت صورة صديقي الشهيد كابتن محمد علي بعد مرور ثلاث سنوات على استشهاده الخرافي ورحيله البطولي وهو يتناثر تبراً على شط الخليج.. عادت بي الذكرى لأكثر من "20"عاماً مضت.. كنا ثلاثتنا هو واللحو وأنا في كسلا.. والقاش ذاك الجار الجائر يعتدي على أقرب الأقربين الذين يسكنون جواره، كانوا ليلتها في دار السفير السمحوني بقرية الختمية واستجاروا بي صباح اليوم التالي وبعد أن زال الخطر انطلقنا ثلاثتنا إلى قرية "قرمايكا" التي ترقد في حافة الحدود الاريترية.. لك يا صديقي في ذكرى رحيلك الثالثة التي صادفت الحادي والعشرين من أكتوبر وفي ذلك دلالة على حبك للسودان وأهله وذكرى ثورته التي صادفت يوم رحيلك وأنت تستعد للاحتفال به.. لك الرحمة الواسعة ولنا الصبر فأنت باق بيننا في كل لحظة نستلهم من سيرتك عظمة الرجال والشجاعة والكرم والوفاء والحميمية أيها النوبي النبيل.. ماذا دهي هؤلاء القوم ------------- ماذا دهاهم هؤلاء القوم.. أهل مصر؟!.. هبطت مطارها قادماً من أديس بطائرة إثيوبية من طراز بوينج787 وهي إحدى الطائرتين اللتين دفعت بهما مصانع بوينج في سياتل.. هبطت الأولى في مطار طوكيو لتنضم إلى طيران "جال" والأخرى هبط بها طيار إثيوبي في مطار "بولي" في أديس أبابا لتنضم إلى الخطوط الإثيوبية. السفر على متنها يمنح متعة السفر بالطائرات الضخمة خاصة إذا كانت بطعم الضيافة الإثيوبية، هي "حلة راحلة" عندما هبطت مطار القاهرة تجمع حولها المصريون يتفرجون عليها.. دلفت إلى مطار القاهرة الحديث ودخلت بلا فيزا.. استقبلني أحدهم وهو يرتدي زياً أنيقاً وقدم لي خدمة الوصول إلى حيث أريد ودفعت له بالدولار فاستدعى سائق عربة خاصة أراد "استهبالي" منذ الوهلة الأولى وطلب مني دفع خمسة جنيهات لتجاوز بوابة المطار فاعتذرت بأني لا أملك عملة مصرية بالاضافة إلى أني دفعت كامل مبلغ وصولي إلى حيث أريد. "ذبحنا كلباً" بيننا منذ الوهلة الأولى ورفض عمل "مس كول" لابني لمقابلتي بدعوى أنه لا يملك رصيداً كافياً رغم الاتفاق الذي تم مع الأفندي الأول من ضمنه المسكول، وانطلق بسرعة فائقة نحو الفسطاط، شغلت نفسي بمراقبة حائط الكلية الحربية المصرية الضخم على يميني، وعادت بي الأيام اثنين وأربعين عاماً حيث قضيت فترة من شبابي داخل ذلك "السور العظيم". ظل السائق المتهور يقود السيارة بسرعة فائقة وهو يتحدث في الهاتف مع صديقيه، لم تنته المكالمة حتى بعد وصولنا حي المهندسين الذي أقصده.. سمعت منه ما طبع في نفسي صورة سيئة للانطباع الأول first imprison عن مدينة أهبط إليها في الساعات الأولى من صباح يوم محبط. كنا عندما نخرج في إجازتنا الأسبوعية نقوم بركوب مترو "الميرغني" من محطته الأخيرة قرب الكلية الحربية إلى وسط المدينة.. لازال ذلك الانطباع الجميل في خاطري والذي كنا نلمسه من ملامح الأخوة المصريين وهم يتلقوننا بالابتسام والحفاوة ونحن نقول بزينا العسكري المتميز لطلبة "مقاتلين" هكذا كانوا يطلقون على الطلبة الحربيين أيام حرب الاستنزاف، ماذا دهى.. القوم؟!! لم يعودوا كما كانوا يلقوننا بالبشر والترحاب وهاهم ينظرون إلينا كالغرباء ونحن في جنوبالوادي نتحدث عن "الأشقاء" و"العلاقة الأزلية"؟ رغم هذه الأزلية ظلت في أقبية المخابرات بعيدة عن أروقة الدبلوماسية منذ أيام الملك وعبدالناصر والسادات ومبارك وحتى أيام مرسي، "الجفاء" هو ما نلقى أينما ذهبنا رغم الوداد الذي نحمله لهم.. عدت إلى مقالاتي السابقة بعنوان "عمار يا مصر" لم ألمس حرفاً واحداً مما كتبته.. استهبال في استهبال أينما ذهبت.. ماذا دهى هؤلاء القوم يتدهورون للخلف.. لهم فضل على لن أوفيه مهما فعلت ومهما فعلوا.. ليسوا كلهم.. لا زال بعضهم يمنحوني الإلفة والود.. ولكن ماذا دهى الآخرين؟!. كانت آخر مقالاتي "نوبة صحيان" في ذكرى رحيل عبدالناصر تفيض بالعرفان في لحظة كان السودان أكبر الحزانى على رحيل الزعيم تقديراً لدوره التاريخي في استقلال السودان.. ولكن ماذا دهى هؤلاء القوم؟!! قد نكون نحن السبب في ذلك بعد أن غزا أسواق القاهرة العاطلون والمشردون والذين رمت بهم الخرطوم إلى شوارع القاهرة فزادوها تشويهاً حتى نالنا منهم ما نالنا. =العبقري المتشرد مشهد سيظل في الذاكرة.. سبعيني رث الثياب.. يشبه المتسولين ولكنه لا يطلب فلساً من أحد.. يرقد على كومة من الكرتون في ركن في شارع النيل الأبيض بالمهندسين.. يتحلق حوله شباب "الديلفري" من إحدى محلات المأكولات القريبة يستزيدون منه من تعلم اللغة الإنجليزية ويسألون في كل شيء وهو يجيب، يجيد أكثر من سبع لغات ويملك عقلاً متفتحاً يجيب على كل سؤال، أردت اختباره في اللغات الشرقية فأذهلني بإجابات علمية دون الرجوع لأوراقه اليومية التي يملأها بالمفيد. وجدته صباح اليوم التالي في ميدان لبنان متكأً على ظل عمود يحتمي به من الشمس.. أتاح له الوراق المجاور كل الصحف اليومية يستزيد منها بنهم شديد، لم اشأ الأخذ به بعيداً عن نهمه في إطلاعه على الصحف فتركته في حاله، مشفقاً عليه وفي قلبي إحترام كبير لهذا المشرد العبقري. =من الضجيج للهمس كنت عندما أصل إلى القاهرة هناك أماكن بعينها أحب زيارتها، أولها ضريح عبدالناصر والأحياء القديمة والأسواق التقليدية وشارع محمد علي والوراقين، هذه المرة لم أتمكن من زيارة أي منها، فقد أخذ مني الضيق بالمدينة مأخذاً بعيداً بسبب الضجيج والصخب وسلوك الغوغاء الذين لم تنج منهم الأحياء التي كانت راقية ولم تعد، صوت البوري "الكلاكس " والشتائم والباعة المتجولين وناتج عوادم السيارات ودخان الشيشة والتبغ.. أظنهم أكثر شعوب العالم امتصاصاً للنيكوتين، بجانب القذارة التي تملأ الشوارع وناتج نفايات الشقق.. كل ذلك استعجلني أن أهرب بجلدي ولكن ليس قبل زيارة مكتبة مدبولي لأخذ زادي الذي يعينني في الاستشفاء من ضجيج الفسطاط في الزهرة الجديدة.. التي استقبلني بكل هدوء وتهذيب وبصوت خافت من أهلها الذين يتحدثون "همساً" ولا يستخدم سائقو السيارات "الكلاكس " إلا للضرورة القصوى عدا تفلت بعض سائقي البصات الصغيرة الذين يطلقون عليهم هناك "الفيروس الأزرق" نسبة للون حافلاتهم الزرقاء. =البدوي حاجاً أسعدني وأسعد كثيرا من الأصدقاء حج صديقنا الأستاذ والخبير الإعلامي وأحد كتاب العدد الاسبوعي الأستاذ محمد خير البدوي الذي هاجر إلى الله هذا العام حاجاً. وكان كثير من الأصدقاء في انتظاره للاحتفاء به "بحولية كبيرة" ولكنه عاد إلى مدينة الضباب دون المرور بالخرطوم. حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً يا حاج. مرحبا بالعيلفوني عاشق التاكا كما اسعدتني عودة صديقي الشاعر مرتضى عبدالرحيم صباحي من المملكة العربية السعودية لقضاء العيد بين الأهل بالعيلفون فألف (أهلاً) أبو معتز فأنت ثروة قوميه لايستحقها غير اهل السودان الذين تشربت بكريم خصالهم ومن قيم ذلك البيت الكبير وكبيره مولانا عبد الرحيم صباحي عليه رحمة الله ومن صفاء وعبق ضريح ودالارباب علي الضفه الشرقيه لبحر (العاديك) في العيلفون التي تعلمت منك حب اهلها الذين عوضوني محنة اهلي . أحمد طه