"وزائرتي كأنّ بها حياءً .. فليس تزور إلّا في الظلامِ .. بذلتُ لها المطارفِ والحشايا .. فعافتها وباتت في عظامي .. يضيِقُ الجِلدُ عن نفسي وعنها .. فتوسعه بأنواع السّقامِ"((أبو الطيب المتنبئ)) -1- غابت (أجراس) و(مدارات) لما يُقارب الأربعة أسابيع، بدون أخذ الإذن اللازم من (مخدّمي) وهو في حالتي جمهور القارئات والقراء، ويجيء ذلك الغياب الاضطراري، بسبب ما أسميه – مجازاً – في هذا المقال "زائرة المتنبئ"، التي فرضت علىّ سطوتها بالحيلولة بيني وممارسة الكتابة، فعركتني بكل قسوة، وقاومتها بكلّ بسالة، وانقطعتُ جبراً عن الكتابة في هذه المساحة، كما في وسائط الميديا الاجتماعية الأُخرى من فيسبوك وتويتر، وحتّى الواتساب، والتفاعل في المجموعات الكثيرة. والآن، وبحمد الله أحاول أن أعود ب(التدريج) لمواصلة مشوار الحياة اليوماتي عبر الكتابة الراتبة، والتي هي – بلا شك – قدرنا ومصيرنا الذي لا فكاك عنه، ل(أقد عين الشيطان)، كما يقولون، ثُمّ أخلد لفترة من الراحة، دعنا نسميها (استراحة مُحارب)، ولكن، سيأتي الغياب عن الكتابة الراتبة، هذه المرّة، بعد الإذن المكتوب هذا، وكل العشم أن يسمح لي أصدقاء وصديقات (أجراس) و(مدارات)، الابتعاد عنهم/ن لفترة استشفاء آمل أن تكون قصيرة، بإذن الله. وها أنذا، أُحاول في هذا المقال، الطواف والمرور بين الخاص والعام، وتقديم التجربة في شكل مؤانسة مع جمهور (أجراس) و(مدارات) ومن منظور شخصي وانساني ومهني، واتمنّى أن لا أجنح لل(أنا) في مقام (النحن) الذي تربّينا صحفياً عليه. فأدعو لي يا أصدقاء وصديقات رحلة الكتابة الطويلة، بالشفاء، الذي لا يغادر سقماً. -2- بمناسبة "زائرة المتنبئ"، وهوالشاعر العبقري العباسي الكبير "مالئ الدنيا وشاغل الناس"، فهي حُمّى – يقال إنّها مجهولة – داهمته، وهو يستعد ويُهيّئ نفسه لمغادرة مصر، مُضطرّاً، وقد قلب له الزمان – فيها – ظهر المِجن، كما يقولون، فكتب في تلك الحمّى، قصيدة، تُعتبر من أجمل ما كُتب في ذلك الوقت من قصائد في وصف الحُمّى. أعود لأقول إنّ "زائرة المتنبئ" تلك، زارتني بدون استئذان – كما جرت العادة – إذ درجت الحُمّى على الهبوط (الخشن) على أجساد ضحاياها، فتقلب لياليهم نهارات، وتحرمهم من نعمة النوم الذي كما يقول أهلنا في السودان عنه "النوم خريف العين"!. وبالرغم من أنّ حُمّى شاعرنا المتنبئ لم يُعرف لها سبباً طبيّاً – حينها – ورُبّما لم ينتبه، أو يحرص أحدٌ، للوصول لمسبباتها، حيث اكتفى الجميع بمتعة وروعة النص الشعري الذي كتبه المتنبئ – وقتها – في وصف الحمى، إلّا أنّ "زائرتي"، جاءت في عصر مختلف تماماً، وهو عصر العلم والمعرفة، والتطوّر الطبي، وقد توصّلتُ، بمؤازرة ودعم ونُصح طبيبي "الخاص" د. الشفيع محمد أحمد – وهو صديق عزيز ومخلص – وعبر الفحص المعملي، إلى التعرّف إلى أسبابها، فجاءت نتيجة الفحص المعملي الاصابة ب(كوفيد 19)، يوم 2 أبريل 2021، فحمدت الله، وشكرته كثيراً، وأثنيت على نعمته، التي بها تتم الصالحات، وهنا أجد أنّ من الواجب المقدّم شُكر هذا الطبيب الإنسان "المداويا" والصديق الذي تجده عند الضيق، ومعه طبيبة العائلة د. وطفاء عثمان محجوب، وقد شكّلا – بسرعة البرق – فريق استشارات طبية، للتعامل مع "زائرتي"، فتبادلا المعلومات والخبرات والمعارف المستحدثة، وصولاً للقرار الصحيح، والرعاية الصحية العاجلة، وقد كان، واستطيع أن أقول بكل صدق، إنني بسبب هذه الرعاية الطبية (المجّانيّة) المتميّزة، التي تلقيتها منهما، لحق بهما آخرون وأُخريات من أصدقاء وصديقات، من كوكبة، من الأطباء والطبيبات وأهل الصيدلة من الأصدقاء، حيث أسهموا بالمشورة الطبية، مشكروين/ ات . -3- ها أنذا أكتب هذا المقال، واستعد لمواصلة المشوار، وهو طويل وصعيب: " طريقنا أنت تدري…شوكٌ ووعرٌ عسير.. والموت على جانبيه.. لكنّنا سنسير..إلى الأمام". وهذه سانحة ومناسبة طيبة للتقدّم بالتحيّة والتبجيل، للجيش الأبيض نساء ورجالا، في وطني السودان، والعالم أجمع، وهم/ ن يتقدّمن ويتقدمون الصفوف الأمامية في معركة البشرية ضد جائحة الكورونا 19، في جهودهم العظيمة في مكافحة (كوفيد 19) ومن منّا لا يعرف التضحيات العظيمة التي قدّمها الجيش الأبيض في وطننا السودان والعالم أجمع.!. فلهم/ن منّا أصدق التحايا والأمنيات. -4- قبل أن أُغادر محطّة تجربتي الشخصية، لن أنسى دور أُسرتي الصغيرة (زوجتي منى شاشوق) وإبننا (عمّار) ومعهما الأسرة الكبيرة والممتدة، في السهر معي – لحظةٍ بلحظة، وساعة بساعة، ولن أنسى جهودهم/ن العظيمة في الدعم النفسي والمعنوي، ومقاسمتي – حقيقةً، لا مجاز – كل الأيام واللحظات الصعبة، ولن أنسى نصائح ودعاء الاُسرة والأصدقاء والصديقات، ونصائحم/ ن الغالية، رُغم اجتهادي في حصر الخبر في دائرة صغيرة وضيّقة جدّاً، بناء على تقديرات ذاتية، حتّى لا أُزعج الكثيرين/ات، ولكي أخلد تماماً للراحة، ومُتابعة مجريات الحدث، في جو من الخصوصية. وأستطيع أن أقول انّ هذا الدعم، العائلي والرفاقي، ثبّت في دواخلي التفاؤل والأمل في الحياة، كما منحني طاقة إيجابية عالية، ساهمت – بلا شك – في تخطّي المرحلة الحرجة، وما تلاها من فترات صعود وهبوط في التعامل مع حزمة الدواء، ومُتغيّرات بروتوكل كوفيد19 المتجدّد، وهجمة كوفيد 19، في نسخته الأحدث، المعروفة بالاسم (الموجة الثالثة)، ويجب الحذر والاستعداد الشديدين، وبلادنا والعالم – أجمع – يستعدون لدخول (الموجة الرابعة)، وهذا يتطلّب تكثيف الجهود، من الدولة والمجتمع، على السواء. -5- بلا شك، فإنّ الوضع في السودان، عاصمة وأقاليم، لحظة كتابة هذا المقال (6 أبريل 2021)، ونحن في قلب (الموجة الثالثة)، فإنّ الكثير من المشاهدات والشواهد في الشارع السوداني العام، وحتّى في الفضاءات الخاصّة للأُسر والعوائل، وغيرهم من الجمهور العام، تدعو للحزن والأسى الكثيفين، لما ستؤول إليه الأوضاع، ما لم نتّخذ القرارات الصعبة (حكومة ومجتمع). ففي قلب العاصمة المثلثة، مازال الناس يقيمون (معرض الزهور) ويتحلّقون حول أُغنيات (عقد الجلاد) في فناء قاعة الصداقة بالخرطوم "نموذجاً"، وتمنع الدولة الحفلات العامة، في صالات الافراح، فيبكي فنّان، ويدّعي أنّ الدولة تُحارب الفنانين والفنّانات و"القونات" في أرزاقهم، وتنتقل المناسبات إلى "دكاكينيات" في المزارع، والفضاءات الخاصّة، وتتم ذات التجمّعات، في مناطق أخرى في العاصمة المثلثة "مركزاً، وهامشا"، وبذات الاستهتار، وعدم المسئولية، فيتجوّل الناس يأكلون في المطاعم ويمشون في الأسواق، فيختلط حابل حاملي/ات الفيروس، بنابل المخالطين والمخالطات، وبهذا، ينتشر الفيروس، بسرعة البرق، وينتقل للبيوت، حيث كبار وكبيرات السن، ليفرض كوفيد19، سطوته وسيطرته على الجميع. وللأسف، مازالت التجمّعات السياسية تتواصل، فنشاهد أعضاء الحكومة و السيادي، و"القادمين الجدد" في العاصمة والولايات، بدون أي احترام للإجراءات الصحية، وهم يبشرون عن سلام جوبا، وما أدراك ما سلام جوبا، وليتهم استغلّوا هذه – بعض دقائق – من هذه المهرجانات الخطابية، في الحديث عن مخاطر جائحة الكورونا وكوفيد19، إذ لم يأتِ على ألسنتهم – حتّى اليوم – حديثاً عن فيروس العصر، وهناك من الوزراء والوزيرات، والولاة والواليات، من يتحدّثون عن الانجازات، ومكاسب التعامل مع صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، وقضايا القروض والمنح والاستثمارات الاجنبية، وبركات زيارات الوفود الأجنبية، دون التطرّق في مخاطباتهم الجماهيرية تلك، لجائحة الكورونا، لنكتشف أنّ وزارة الصحّة الاتحادية، تقف كأبي ذر الغفاري، تُقاتل وحدها، وتخوض – بكل بسالة وعزمٍ لا يلين – معركة كوفيد 19، وظهرها مكشوف تماماً!. -6- ما يجب أن تنتبه الدولة له بكل حزم، هو التطبيق السليم والصحيح والعاجل، لإجراءات التعامل مع جائحة كوفيد 19، وفق موجّهات منظمة الصحة العالمية، وتحت الإدارة الواعية لوزارة الصحة الاتحادية، التي تبذل جهوداً، كبيرة في التعامل مع الجائحة، والمطلوب أن تساندها، وتدعمها الدولة، بدلاً من تكسير مجاديفها، بهذا التساهل المريب، من أجهزة الدولة الأُخرى، والمطلوب كذلك، تكاتف وتكامل دور المجتمع، مع الدولة، فالمعركة مع كوفيد 19، ليست معركة دولة وحكومة فقط، بل، معركة كل المجتمع وكل الشعب، وفي هذا فليتنافس المتنافسون. -7- علينا في الصحافة (الميديا)، مواصلة دورنا في نقل الحقيقة للناس، وفي نشر الوعي، وفي التنبيه بمكامن الخلل الإداري، والسياسي، وغيره من الأخطاء القاتلة، في التعامل مع كوفيد 19، ويأتي هنا واجب المؤسسات الصحفية في حماية وضمان سلامة كادرها البشري، وعلى الدولة أن تُدرك أنّ ("عمّال وعاملات" الصحافة)، هُم بلا شك، جزء عزيز، لا يتجزّأ من بقيّة العاملين والعاملات في الصفوف الأمامية، في معركة مكافحة كوفيد19، وعلى وزارة الصحة الاعتراف للصحافة – مرئيّة ومسموعة ومكتوبة – بدورها، وضم كادرها العامل – اليوم، وقبل الغد- للمجموعات التي يجب أن يشملها التطعيم، كما عليها تمتين الشراكات الواعية مع الصحافة/ الميديا، ونحن على أعتاب (الموجة الرابعة) "منتصف مايو 2021″. -8 – أخيراً، يجب عدم إضاعة الوقت والجهد، في الجدل البيزنطي والسفسطائي الدائر حول اللقاح، وما ادراكم ما اللقاح، وفوائده ومضاره……إلخ، فالأهم، الانتباه للأخبار الكاذبة والمضطربة، وعدم المشاركة والمساهمة في حملات بث التشكيك والقلق والخوف في المجتمعات، ولا يعني هذا، عدم نشر الحقائق العلمية المؤكدة، أو اخفائها، فمن حق الجمهور أن يعرف الحقيقة، والحقيقة الناصعة، وعلى الصحافة/ الميديا، التفريق بين المعلومات والشائعات، إذ المطلوب البحث عن الحقيقة و"غربلتها" بمهنية واحترافية عالية، من كل شوائب الأخبار الكاذبة، والمضطربة، فانتبهوا يا مجتمع الميديا، لصحافة الحقيقة، خدمةً للجمهور الذي يستحق الخدمة الصحفية السليمة والصحيحة. -9– أرجو أن أُضيف، أنّ أبا الطيّب المتنبئ (303 – 354هجرية، 915- 965 ميلادية) لم تقتله الحُمّى، إنّما قتله شعره!!. وللمتنبئ وحوله وعنه، قصص وحكايات ومواقف، يصعب سردها في مقالٍ واحدٍ، عن هذا الشاعر الكبير وشعره العظيم. وممّا يُحكى "سودانياً "عن المتنبئ، أنّ الأديب الأريب والعالم الكبير د. عبدالله الطيب، عندما سُئل عن رأيه في المتنبئ، أوجز القول بلغته الساحرة والساخرة : "رُغم نرجسيته، إلّا أنني أُحبه كثيراً"! وحتماً، فإنّ الحديث عن المتنبئ، دوماً، له شجون!. جرس ثان: "ما في جسدي موضع شبرٍ، إلّا وفيه ضربة بسيف، أو رميةً بسهم، أو طعنة برمح، وها أنذا أموت على فراشي، حتف أنفي، كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء" ((خالد بن الوليد)). جرس أخير: "أقول دون رهبة..أقول دون زيف.. أموت، لا أخاف أين أو متى وكيف..بغتةً مُستمتعاً بأنجم السماء..ليل ، صيف .. رصاصةً في القلب.. طعنةً من سيف .. أموت، لا أخاف أين أو متى وكيف .. أموت في الظلام.. في الزحام.. بساحل الطريق ..حريق.. غريق.. أموت في سريري .. زوجتي .. بنتاي ..جيرتي ..عشيرتي.. وأصدقائي .. قطّتي ..راكوبتي ..وزيري.. مُعزّزاً ..مُكرّماً .. مهندماً، بناصع البياض.. موكبٌ يحفّني لمرقدٍ أخيرِ.. أموت، لا أخاف، كيفما يشاء لي مصيري .. أموت، لا أخاف .. قدرمات أخاف .. أن يموت لحظة ضميري" ((محجوب شريف)) [email protected]