لم يكن مساءً الأربعاء الماضي عادياً في العاصمة الأوغندية كمبالا، بل كان يشبه تلك اللحظات النادرة التي يتداخل فيها الزمن فيجلس الماضي إلى جوار الحاضر، ورغم مأساة حرب السودان كان السلام حاضراً في فعالية "نفير الأغاني" لتغدو مساحة عاطفية كثيفة لامست وجدان السودانيين في الداخل والمنافي على حد سواء. بدت الفعالية وكأن خليل فرح نفسه يتحرك بين المقاعد في ذلك المسرح ويتأمل الوجوه ويبتسم للفنان الشاب محمد خير الذي كان ينقل صوته أمام جمهور منفي وقريب في آن واحد، وما إن ارتفعت نغمة "عازة في هواك" حتى خيل لكثيرين أن الشاعر الذي كتبها قبل قرن يقف في الخلف يطرق بإيقاع خفيف على الأرض كمن يبارك ميلاد لحظة سلام جديدة لم تأت بعد. وبين هذا وذاك رفرفت روح الشاعر الذي ظل صوته ينهض كلما انحنى الوطن فكان ايضا محجوب شريف حاضرا كما لو أنه خرج من دفاتر طلابه وكراسات المعتقلين ووجوه البسطاء ليجلس وسط الحضور لينصت إلى المبدعة "بيحة" التي أعادت إحياء كلماته فاتسع المسرح بذلك المزج العجيب بين الحزن العميق والفرح العنيد. مبادرة ثقافية "نفير الأغاني" لم يكن مجرد فعالية بل مبادرة ثقافية وفنية تراهن على الفن بوصفه جسرا نحو سلام السودان فكان مساحة آمنة وجماعية تسمح للسودانيين بأن يغنوا ويعيدوا اكتشاف رؤاهم المشتركة لمستقبل يستحقوا أن يعيشوه. يقول عبد الله عوض مدير العمليات في المشروع ل(التغيير)، إن الفكرة الأساسية لهم تقوم على كيفية استخدام كل أنواع الفنون من أجل السلام. وأضاف أن الأغاني كانت دائما جزءا أصيلا من الثقافة السودانية ولذلك يسعى المشروع إلى إبراز حضور الغناء في الثقافة والعادات والتقاليد، والعمل على بلورة هذه العناصر وتوصيلها كرسالة سلام وهو ما يشكل جوهر مبادرة "نفير الأغاني" التي تهدف إلى إبراز أصوات شبابية فنانة تحمل في غنائها رسالة السلام. وأشار عوض إلى أن المشروع يستهدف جميع الناس في واقع الشتات وداخل السودان مع التركيز على من هم في الداخل باعتبار أن ذلك يعزز القرب من اللحمة الوطنية، وأوضح أنهم يسعون إلى ملامسة حنين السودانيين في الشتات والتذكير بأن ذلك وطنهم وأنه رغم ما أحدثته الحرب من سلبيات فإنهم ما زالوا قادرين على التمسك بالسلام والعيش في ظله. الفن كأداة لبناء السلام وتضمنت الفعالية مساحة شعرية قدمت فيها سلمى عمر قراءات شعرية بدأت بقصيدة بعنوان "بيان إدانة باسم الحب" وهي قصيدة غاصت في عمق التجربة المقاومة، تقول فيها: "وقال أمي سامحيني لم أمت". كما اهدت قصيدة للنساء في إطار سعيها نحو أرشفة أصواتهن وتجاربهن موجهة الإهداء إلى كل النساء اللواتي وجدن كل شئ إلا الحب. وكان جزءاً من الفعالية انعقاد ندوة بعنوان "الفن كأداة لبناء السلام وصناعة الحوار المجتمعي"، وشارك في جلسة النقاش نخبة من الفنانين المشاركين من بينهم التشكيلي آدم أبو حازم والمسرحي وليد الألفي. وقد عكس فيها مظفر سيف وجهة نظره حيث قال إنه من الصعب تخيل وضع خطة استراتيجية واضحة لاستخدام الفنون في عمليات بناء السلام لأن الفنان بطبيعته يعبر عن المجتمع الذي أتى منه، المجتمع الذي يعيش داخله في الوقت الراهن، موضحا أن الفنون تماما مثل اللغة تتطور باستمرار، واللغة تتشكل من المجتمع وتعيد تشكيله وكذلك تعمل الفنون بالآليات نفسها. وأضاف سيف أنه حين نفهم الفنون في هذا السياق يمكننا التعامل معها بموضوعية باعتبارها نوعا من الوعي الجمعي، أما فكرة توظيف الفنون لتغيير الواقع فهي كما قال فكرة حديثة نسبيا في المجتمع وتعتمد بشكل أساسي على التجربة والمراكمة وكيفية استقبال الناس لهذه الفنون وتأثرهم بها. مظلة واسعة الفنانة بيحة قالت ل(التغيير)، إن "نفير الأغاني" مشروع لطيف جدا واسمه وحده يمنح شعورا بالحماس والدعوة إلى أن هيا لنذهب جميعا ونشمر سواعدنا للعمل من أجل السلام. وأضافت أنها ترى الفنون مظلة واسعة تشمل كل أشكال التعبير ويمكن للجميع الجلوس تحتها دون تحيزات أو مشاعر سلبية أو أفكار معادية للآخر. وأوضحت أنه لا يمكن أن أتخذ موقفا ضدك لأنك تغني أغنية معينة لكن يمكن أن يختلف الناس بسبب الآراء السياسية أو غيرها ولذلك حتى نصل إلى بعضنا البعض دون تحيزات فنحن بحاجة لأن نجلس جميعا تحت مظلة الفن أيا كان نوعه لأنه هو ما يقرب الناس من بعضهم بحد تعبيرها. وتضمنت الأمسية معرضا تشكيليا للفنان آدم أبو حازم، حمل في طياته مختلف تفاصيل المجتمع، كما أنه عكس تنوع القضايا المطروحة فيه من قضايا اجتماعية واقتصادية وسياسية ومناهضة للحرب، إلى جانب عكس المعرض الرسائل الداعية للسلام. وقال أبو حازم ل(التغيير)، إن مشروع نفير الأغاني يركز تحديدا على فكرة السلام وعلى الدور الذي يمكن أن تلعبه الفنون في ترسيخ دعائمه داخل المجتمع. وأوضح أن الفن التشكيلي يعد إحدى هذه الأدوات المهمة إلى جانب الموسيقى والشعر والغناء لما يمتلكه من قدرة بصرية مباشرة عبر العين باعتبارها واحدة من أكثر الحواس تأثيرا على المتلقي. وأشار أبو حازم إلى أن اللوحة بخلاف العمل المنحوت تحمل فضاء بصريا واسعا يتيح التعبير عن رسائل وقيم متعددة بعمق ووضوح. وأسدلت الفعالية ستارها على لحظة بدت كأنها تلخص روح المكان كله حين تغنى محمد خير وبيحة وارتفعت معهما كلمات رائعة محمد طه القدال "الطمبارة و الغناي"، اندمج الصوتان مع دقات القلوب حولهما فانساب الغناء بين الحضور الذي ردد معهما: "عشان عيون أطفالنا ما تضوق الهزيمة".