حاولت أن أكتب عنها وهي حية ولم أوفق، فالكتابة عن إنسان تربطك به وشائج من عاطفة ولحمة قوية قد تفقدك الموضوعية، وأقل هفوة بسبب انجراف العاطفة ستنزلق بك إلى هوة الرومانسية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، والتجرد من العاطفة سيلغي اللمسات الإنسانية عن الكتابة ونحن بصدد الكتابة عن إنسان مما يحيد بالكتابة عن هدفها، الكتابة هنا محفوفة بالمخاطر خاصة إذا كان هذا الإنسان ربما هو عادياً في نظر الجميع لكن أنت "مع قلة قليلة" تدرك وتعلم مدى عظمته ورفعة قدره وعمق رؤيته ومدى حكمته وعظمة تضحياته . لكن الآن أجد أن لا مناص عن الكتابة عنه ربما بسبب إحساس عميق بالذنب يتملكني بأنني لم أوفيه حقه في حياته فأسعى لرد القليل لهبعد وفاته. عزيزة بت عثمان (1918-2011) والدها هو عثمان (الفكي) إبراهيم إسماعيل حاج محمد ساتي حمد البديري الدهمشي أو عثمان كعيب كما كان يطلق عليه، وأمها بتول بت فاطمة بت مريم بنت إسماعيل حاج محمد ساتي حمد البديري الدهمشي أو بتول بت بقاري كما كان يطلق عليها، ولدت عزيزة وترعرعت بمدينة أم درمان حي الركابية تزوجت بعد إكمالها المرحلة الأولية من الشيخ أبشر علي من أبناء الباوقة وأنجبت منه عواطف وأحمد وعوض، بعد ترملها في منتصف الأربعينات دخلت في حالة حداد لعدة سنوات إلى أن أجبرها الأهل للخروج للحياة والزواج مرة أخرى خاصة بعد أن غيب الموت أولادها أحمد وعوض (أحمد توفي في سنته الأولى وعوض توفي وهو في سنته التاسعة) تزوجت من عبد الله قسم السيد خلف الله الأنصاري القادم من الجبلاب محلية شندي وأنجبت منه فتح الرحمن وعاطف، ثم اختارت الانفصال عنه والتفرغ لتربية وتنشئة أبنائها بمساعدة والدها عثمان كعيب، وهو رجل جاهد مع المهدية في صغرة وعرف بالورع والزهد والتقوى، ورغم أن والده الفكي إبراهيم كان أزهرياً (خريج الأزهر الشريف) إلا أن عثمان كعيب كان أمياً ولقب بكعيب نسبة لأنه كان يكره أن يتناول الطعام في بيوت الآخرين منذ صغره فقيل عنه "كعيب" . نشأت عزيزة مثل سائر نساء أم درمان لكن ما كان يميزها هو حصولها على قدر من التعليم في تلك السنوات الباكرة حيث كان تعليم المرأة شيئاً عزيزاً وقلة من النساء حظين به، فقد أكملت المرحلة الأولية وكان من الممكن أن تنتقل للدراسة بكلية المعلمات "أمدرمان"، التي كانت المؤسسة الوحيدة لتعليم البنات فوق المرحلة الابتدائية إلا أن الادارة المدرسية البريطانية وضعت شرطا لدخول البنات لكلية المعلمات وهو ان يتعهد اولياء امور الطالبات كتابة بالسماح لبناتهم بالعمل في اي منطقة في السودان متى ما طلب منهن ذلك،الأمر الذي قوبل بالرفض خاصة من قبل عمها أبوبكر آبة، لكن ذلك لم يمنعها من أن تعيد الصف الرابع حتى تظل برفقة صديقاتها من بنات الحي في المدرسة، لكن ما حرمت منه صممت أن تتيحه لأولادها فاهتمت بتعليمهم. نشأت عزيزة كبنت وحيدة وسط ستة أشقاء أشداء من أصحاب المهن العمالية الحرة فمنهم النجار والبناء والسروجي والخياط والدهان، أكسبها ذلك بأساً وشخصية تتسم بالجلد والصلابة وقوة العزيمة والإرادة، أمها بتول كانت رحمها الله امرأة عرفت بالحزم، إلا أن أكثر من ساهمت في تربيتها خالتها زينب (أم يوسف الباشا) المرأة التقية الورعة والتي لم ترزق بالبنت فجعلت من عزيزة ابنة لها فأغدقت عليها من عطفها وحنانها ومالها فاكتسبت منها صفات الحكمة واللين والرحمة وبعد النظر تلك الصفات أورثتها لأبنتها البكر عواطف الشيخ، لذا يمكن القول بأن عزيزة تربت بين والدتين أحداهما حازمة والثانية حالمة لذا نجدها قد اجتمعت لديها الصفتين اللين والحزم، وكذلك من تأثير الأم الثانية الحاجة زينب تلك العلاقة المميزة والحميمة الي ربطت بين عزيزة وأخيها "إبن خالتها" يوسف الباشا وبأولاده وأحفاده، علاقة مميزة امتدت وترسختبين الأولاد والأحفاد من بعدهما. ظلت عزيزة تصارع من أجل توفير فرص أفضل لأولادها في الحياة وكانت تعلم بأن التعليم هو الذي يمكن أن يؤمن لهم ذلك، فنجحت في ذلك إذا أخذنا ما قامت به مقارنة بمستوى التعليم وسط أفراد الأسرة الصغيرة (عزيزة وأشقائها وأولادهم) نجد أنها قد أحرزت قفزة نوعية بينهم حيث أن مجرد الدخول للمدرسة ولو حتى الأولية كان لقلة قليلة بينهم . رغم أن الأسرة كلها كانت أسرة بسيطة الحال، ووسط ظروف قاسية كانت عزيزة مصممة على أن توفر لأولادها حياة سهلة ومستقبلاً آمناَ فنجحت ابنتها عواطف أكاديمياً وتفوقت على أقرانها وعملت بعد زواجها كمقدمة لبرنامج دنيا المرأة في تلفزيون السودان بعد فترة وجيزة من انطلاقته، وأسهمت معها في تحمل مسئولية تنشئة أخويها فتح الرحمن وعاطف. مدينة أم درمان القديمة عامة وحي الركابية على وجه الخصوص هو ما شكل وجدان عزيزة الثقافي والاجتماعي حيث الانفتاح على الآخر والثقة في الغريب والحياة الآمنة، والدها جاء مهاجراً مع المهدي إلى ذلك الحي أسس وقطن فيه، والحي رغم أنه يحمل اسم إحدى القبائل السودانية إلا إنه كان صورة مصغرة للسودان بتمايزه الثقافي والحضاري، تمازجت فيه القبائل السودانية بشتى سحناتها، وشهدت بعض أزقته ميلاد السودان الحديث فيه حيث انطلقت منها ومن الأحياء المجاورة له كثير من الأصوات والأنشطة التي ساهمت في تشكيل الوجدان السوداني، وتعد الركابية من أعرق وأقدم أحياء أمدرمان وهي جزء من مربع شكل قلب المدينة القديمة النابض، السوق الكبير يحدها في الجنوب الغربي وعلى جنوبها يقع حي الشهداء والإستبالية وعبد الله خليل وعلى شرقها وود أورو وأبوروف وحي القلعة، وشمالاَ نجد حي الكاشف وحي والعمدة وودنوباوي وعلى غربه بمرمى حجر يقع حي المسالمة حيث الكنائس والأقباط والنقادة الذين جمعت بين بعضهم والحاجة عزيزة عروة وثقى من الألفة والصداقة والأخوية رغم تباين واختلاف الأصول والثقافة والعقيدة. هذا المربع الذي تشكل الركابية قلبه النابض والذي أطلق عليه البروفسير علي المك وادي عبقر لما كان يذخر به من أسماء وأماكن ولما فيه من فعاليات شكلت المزاج العام سياسياً وثقافياً وأدبياً حيث ضم الكروان كرومة وسرور ومن الشعراء العبادي وود البنا والتجاني يوسف بشير ومن الساسة حسن الطاهر زروق وعبد الرحمن الوسيلة وإسماعيل الأزهري وعبد الله خليل وعبد الخالق محجوب ويس عمر الإمام، وضم كذلك المربع نادي الخريجين الذي شهد ميلاد الحركات والأحزاب الوطنية وثورة التعليم الأهلي ونشأة الجمعيات الأدبية والثقافية كما حوى ناديي الهلال والمريخ قمة الكرة السودانية قبل انتقالهم للعرضة جنوب وشمال وفيه اتقدت نار القرآن وبه المسجد الكبير والشيخ عوض عمر وآل عربي وآلمكاوي ، هذا على سبيل المثال وليس الحصر. كان لنشأتها في تلك البيئة قد شكلت رؤيتها للحياة، فنجدها تتمتع بصفات وخصائل وشيم أم درمان حيث التسامح واحترام الآخر والوفاء، كانت وفية لصداقاتها وفاء يصل حد التقديس وعطاء بلا حدود وتضحيات ونكران ذات في خدمة الصديق يتجاوز كل حدود المعقول، وكذلك في عداواتها وكانت لا تقبل أبداً بأنصاف الحلول واللون الرمادي ليس له مكان عندها . هذا المشهد ورد ذكره في رواية "البقع السوداء" وهو مشهد مستقى من واقعة حقيقة كنت أنا وأمي أبطالها سأعيد صياغته كما جرى فعلياً. كانت العلاقات بين الجيران حميمة ومتداخلة، أذكر وأنا طفل صغير أنه ذات يوم وكان أربعاء وفي أواخر الشهر .. أن جاء عبد المنعم مرسلاً من امه عائشة تطلب من أمي تسليفها مبلغ خمسة وعشرين قرشا وكانت أمي مفلسة في ذلك اليوم ولا تملك المبلغ فنادتني وطلبت مني أن أذهب لجارتها نفيسة بت عبد الله كي تسلفها المبلغ، عدوت لمنزل نفيسة فوجدتها معدمة هي الأخرى ولكنها لم تشأ أن تردني خائبا، فطلبت مني الانتظار وأرسلت ابنها إلى جارتها تريزا القبطية كي تستدين منها المبلغ ولكن هي الأخرى أيضا كانت مفلسة فقامت بدورها بإرسال ابنها تادرس إلى الحاجة عائشة كي تستدين منها مبلغ الخمسة والعشرين قرشا، وعندما اجتمع شملهن في المساء حول موقد الفحم يحتسين القهوة في منزل نفيسة بت عبد الله أخذن يضحكن من سخرية الموقف .. و هكذا كان حال المدينة في ذلك الزمان. جمعتها بنساء الحي صداقات وعلاقات بعضها لا يتجاوز المجاملات العامة كالمشاركة والمواجبة في الأفراح والأتراح وبعضها يتم فيها تقاسم الأسرار ولقمة الكسرة، كانت أقرب صديقاتها هي عائشة رحمها الله وكان لعائشة العديد من الأولاد والبنات بينهم ولد وبنت ولدا بعاهة خلقية وتخلف عقلي ، لم يكن سوى عزيزة يقبل بأن يأخذهم في الأسواق ليتسوق لهم كسوة العيد، ويذهب معهم لعيادة الطبيب ويتحمل ترهاتهم ، كما أذكر لها من صديقاتها الأقباط "كوكب" قدمت يوماً إليها تحمل صرة ممتلئة بالحلى الذهبية من غوائش وحلقان وسلاسل تأتمنها عليها لأنها كانت على سفر ولم تأتمن شقيقاتها أو حتى أولادها على مالها، كما أن من أقرب صديقاتها "أم غالي" النقادية كانت عزيزة بالنسبة لأم غالي وأولادها وبناتها هي المستشارة في كل أمر وهي القاضي والحكم في كل شأن أو خلاف ينشب بينهم يحتكمون إليها ويرضون بحكمها . كما أذكر بأن لنا جيران من العذاب تجار قدموا من قرية "ود راوة" كانت أمي هي بمثابة أم لهم أجمعين ، ذات يوماً أرادوا إقامة مأدبة غداء فدعوا كل تجار السوق فذبحوا وأتوا بالذبيحة إلى الحاجة عزيزة كي تعد لهم الطعام وكانت لوحدها فكفت وأطعمت كل ضيوفهم ورفضت حتى أن تعطينا طبق أو قطعة صغيرة من اللحم من ذلك الطعام ، وأكلنا من ما هو موجود بالبيت منذ الأمس وكان مما الفناه فيها هي تلك القناعة أو عدم الخفة فمهما كانت محتاجة إلا أن لها أنفة لم تفارقها قط وكأن دائماَ ما تؤثرنا على نفسها فلو كنا نتناول طعام وهو قليل تنهض دون أن تشبع حتى تترك لنا نحن المجال لنشبع وكانت لو خرجت في زيارة أو مجاملة وقدمت لها قطعة حلوى كانت تأتينا بها لنتقاسمها. كنا أنا وأخوتي رغم تفوقنا عليها بالتعليم إلا أننا كنا نتعلم منها، فقد كانت مدرسة ، وكان لكل فعل أو أمر أو قول يصدر منها يمثل رؤية، كانت دوماً تنظر إلى الأمام ، وكانت خياراتها دائمة صائبة، أذكر مرة أن ندى ابنة أختي الكبرى كانت تهم بالخروج مع إحدى صديقاتها فطلبت منها أمها أن ترتدي الثوب السوداني وكانت لا تزال البنت يافعة في مرحلة انتقال من طفولة إلى مراهقة فرفضت واكتفت بالطرحة إلا أن أختي رفضت خروجها واشترطت عليها ارتداء الثوب ، وهنا تدخلت عزيزة مخاطبة بنتها :- أنت لما كنت في سنها لم يلزمك أحد بارتداء الثوب ولوحدك قررت لباسه فدعيها هي لتختار، ثم لو أجبرتها هل أنت ستكونين في صحبتها يمكنها أن تخرج وتخلعه في السيارة، من الأفضل تركها لتختار، غضبت أختي وتمسكت برأيها ، لكن بعد فترة تراجعت وأفسحت المجال لبناتها ليختارن فأحسنَ الاختيار. كثيراً ما كانت توجهنا وونرفض توجيهها ، نتعالى عليها، نتحامق عليها، نظن أننا على حق لكن تدور الدوائر ويثبت لنا إنها هي التي كانت على حق، الآن أقر لو أنني كنت استمع إليها بعقل مفتوح وامتثل لما تقول لكانت حياتي قد اختلفت كثيراً على ما انا عليه الآن، وأقر وأعترف بأنه لو بي أي من حسنة أو خير أو خصال يرى البعض فيها محمدة فالفضل يعود بعد الله سبحان وتعالى إليها، كما أن كلما بي عيوب أو نقائص أو فشل فمرده يعود إلي وإلى عدم استماعي واستيعابي لنصحها في وقته وزمانه، في غياب الأب كان من السهل أن نضيع في كما ضاع الكثيرون من أقراننا فقد كانت دروب الحياة وعرة لكنها هي كانت الأم والأب والشمعة التي تحترق لتضيء لنا تلك الدروب. كانت عزيزة رحمها الله مخزناً للأمثال الشعبية ، خفيفة الظل حاضرة البديهة، تحب الطرب، تنسجم مع أغاني كمال ترباس وتتمايل مع نغمات ندى القلعة، وكما كانت تقول النصيحة كانت أيضاً تتقبلها وتطلبها ولا تتضجر منها مهما كان ثمنها أو مصدرها، كما عرف عنها الكرم الفياض والسخاء وكان أكثر ما يحز في نفسها أن يأتيها زائر أو طالب حاجة ويخرج منها خالي الوفاض، كانت بارة بأهلها ، مواصلة لرحمها ، شديدة الاعتزاز بجدودها أصحاب القباب في دنقلا، وقد ورثت عن أبيها تلك الأنفة والطمأنينة فكانت لا تطمع بالذي في يد غيرها ولا يغرها الذي بيدها، كانت دائماً شجاعة في إبداء رأيها مهما جرَّ لها من متاعب، وكانت دائماً تردد "البقول النصيحة يقولوا أم دقورة فصيحة " كان لا يهمها ارضاء الناس بقدر ما يهمها أن تكون هي راضية عن نفسها.لم تألُ جهداً ولم يتسلل الوهن أو اليأس إليها من فعل الصواب وقولة الحق والقيام بمسئولياتها حتى اسلمت روحها لبارئها، بعد أن خلفت وراءها ثلاثة وعشرين نفساً هم ذريتها في الدنيا والذين تشربوا من ذات الكأس المترعة بالأنفة والاعتداد بالنفس والكرم واحترام الآخر. أسأل المولى عز وعلا أن ينزل عليها شآبيب رحمته وأن يجعل قبرها روضة من رياض الجنة ويلهمنا الصبر والسلوان. عاطف عبدالله هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته