الدولة المتعثرة.. هي حالة دولة مضطربة خالية من المؤسسات، وتؤثر فيها القرارات العشوائية وغير الناضجة، إلى الحد الذي يجعل أقيستها السياسية غير قياسية، وذلك نتيجة طبيعية لغياب المؤسسات والنظام الذي يقود الدولة في حالات الفراغ الدستوري، فيتم تعويض الغياب بواسطة سلطة مجتهدة، مدنية أو عسكرية، تحكم ولديها العديد من النوافذ المفتوحة لرياح سياسية وعسكرية واقتصادية وأمنية. في كل دول العالم الثالث أو النامي ربما يبدو من المبالغة القول بأنه توجد مؤسسات حقيقية تحكم الدولة، وإنما هناك نزعة لدى بعض النخب إلى الشكل المؤسساتي للدولة، وفي الواقع الحقيقي تعرضت فكرة تلك المؤسسات لتدمير وتخريب يخدم السلطة التي تحكم وذلك ما يبرر تعدد الأنظمة الشمولية ورجحانها على نظيرتها الديموقراطية التي عملت في بعض الأنظمة على الحد من قدرة المؤسسات المتاحة. غالباً سيطرت مسألة الهويات على بناء الدولة في تلك الدول، وهي قضية يتم تجاوزها وترحيلها بتسطيح يراكم الفشل والإخفاق في إدارة الدولة، لأن ما يحدث هو عملية توازنات هشة وغير مؤسسية تتنافى مع الروح الديمقراطية، وأينما وُجدت توازنات سياسية فذلك يقابله تمزيق مؤسساتي، وعدم اكتراث بالنظام الذي يمكن أن يدير دولة ويستوعب الهويات بصورة نموذجية لا تجعلها تعلو على الدولة ونظامها. المؤسسات المستقلة والعتيدة تمنح الدولة الحيوية الديموقراطية وتثبّط أي فكرة شمولية، وفي هذا السياق يسوق فرانسيس فوكوياما رؤية جوهرية حول وظائف المؤسسة، حين يشير إلى ما جرى من ترويج واسع للفيدرالية واللامركزية بوصفهما طريقتين لجعل الحكومات أكثر استجابة وشفافية من الناحية السياسية، ولكن، وهنا استدراك مهم، حين افتقرت روسيا، كمثال، في التسعينيات إلى آليات فرض القانون الضريبي أدّى ذلك إلى تنافس الحكومات المحلية مع الحكومة الفيدرالية نفسها، ولأن المستوى المحلي يتمتع بسبل أفضل للحصول على المعلومات كانت النتيجة انهيار العائدات الضريبية على المستوى الفيدرالي. ذات الأمر حدث في الأرجنتين حيث كان نظام الفيدرالية المالية أحد أسباب المصاعب التي واجهتها الدولة في السيطرة على ديون الموازنة، وحدث ذلك أيضا في البرازيل، ورغم أن هذه النماذج في دول متقدمة عن العالم الثالث، فلابد أن يحدث الأسوأ في دول هذا العالم، ففي السودان مثلاً، لم تكن الفيدرالية ولا اللامركزية ذات عائد على الدولة بشكل يمنع الانهيارات، والأكثر سوءاً أن الأخطاء يُعاد إنتاجها في الحالتين، الشمولية والديمقراطية. في دراستهما حول الاقتصاد السياسي للانتقال، يشير ستيفان هاغرد وروبرت كوفمان إلى أن "التحوّل الديمقراطي يبقى إشكالياً لأنه يطلق العنان لمطالب مكبوتة تسعى إلى الحصول على مساعدات حكومية تتعارض مع أهداف الإصلاح"، وهذا التحوّل يتطلب في الواقع إجراءات إصلاحية كثيرة وأساسية تتعلق بالشرعية والمشاركة والهوية والتنمية. قد يكون التحوّل الديمقراطي سببا لإنتاج المؤسسات، ولكنه ليس ضامنا لصلاحيتها أو فعاليتها أو حتى بقائها لأن الديموقراطية نفسها بحاجة إلى التطوير، وفي الأنظمة الشمولية رغم بؤسها، إلا أنها يمكن أن تنتج نمواً أفضل وذلك رهناً بالقائد، كما في حالة لي كوان يو الذي صنع المعجزة السنغافورية، وقد فعل ذلك دون ديموقراطية. الفكرة الشمولية السابقة ليست بالضرورة زُهداً في الديموقراطية أو يأسا من نتائجها بل إنها في الحقيقة يمكن أن تنتج مؤسسات متصالحة مع الخيارات والرغبات الشعبية في تنظيم عمل الدولة بالشفافية والكفاءة المطلوبة التي تنتهي إلى نهايات سعيدة في التنمية الشاملة والمستدامة، وتحقيق السلام والعدالة الاجتماعية وإطلاق الحريات التي يتنفس بها الناس. لكن لنا أن ننظر في بعض العواقب خاصة فيما يتعلق بهشاشة الوضع الاقتصادي الذي يضر الديمقراطية، وفي ذلك مثال يشير إلى أنه في الفترة من عام 1974م إلى عام 1998م انهار 85 نظاماً سلطوياً، لكن بقي منها 30 نظاماً ديمقراطياً حتى عام 1998م، ونشأت 9 أنظمة ديمقراطية مع نشوء دول جديدة، و8 دول لم تكن فيها الديمقراطية مستقرة، وتحولت 4 أنظمة إلى حالة من الاحتراب، تحول 3 منها إلى أنظمة سلطوية. في كل الأحوال يظل العامل الاقتصادي هو الأساس في إدارة الدولة، وإذا كان الفقراء هم الذين يطلبون التغيير ويصنعون الثورات، فإن الطريق إلى الغايات ليس سهلا، وحين ننظر إلى مطلوبات صمويل هنتنغتون لإقامة التحوّل الديمقراطي ربما يبدو الأمر تعجيزاً حيث يطلب مستوى عالياً من الثراء الاقتصادي، توزيعاً متساوياً نسبياً للدخل والثروات، وجود اقتصاد السوق، نمواً اقتصادي وتحديثاً اجتماعياً، غياب الإقطاع في المجتمع، ووجود برجوازية قوية بدونها لا وجود لديمقراطية. يذهب هنتنغتون بعيداً في متطلبات التحوّل ويطلب وجود طبقة متوسطة قوية، ارتفاع نسبة التعليم وانخفاض الأمية، ثقافة وسيلة وليس هدف، تطور روح التنافس السياسي، وجود هياكل ديموقراطية للسلطة داخل فئات المجتمع، انخفاض مستوى العنف المدني، انخفاض مستوى الاستقطاب السياسي، رسوخ تراث التسامح والتفاهم، رسوخ فكرة احترام القانون، تجانس طائفي، وجود وغياب إجماع حول المبادئ السياسية والاجتماعية. من بين ذلك أيضاً يطلب أمرين تتوفر في الحالة السودانية وهي المرور بتجربة الخضوع للاستعمار البريطاني، وذلك لما يتركه من إرث في بناء مؤسسات الدولة، وأيضا رغبة النخبة في محاكاة الدول الديمقراطية، وعليه فإن طريق الديمقراطية ليس سهلا ويتطلب الإيفاء بكثير من الشروط التي تبدأ بتوازن الأطراف السياسية واتزانها في الممارسة السياسية، وبحثها عن المؤسسات فهناك تُدار الدولة وتنتعش الديموقراطية والمدنية.