"أي نضال يكتفي بسلطة لا يعول عليه" يقول د. فتح الرحمن التوم: "الانتقال لا يبدأ أساساً من الحكومة، الانتقال أصلاً بيبدأ من فكر الناس ووجدانهم"، بالتالي أود التأكيد على أنني أرى د. حمدوك من خلال موقعه كجزء أساسي من السلطة الرسمية، لا تنفصل الحملات ضده ومحاولات تخوينه بعد الحادي والعشرين من نوفمبر، عن إفراط العقل السلطوي في تقدير نفسه، ومحاولات فرض شروطه على عملية التغيير والثورة، وتعزيز دوره عبر هندسة امتيازاته وليست هندسة الدولة، وفق مُحاصرة امتيازات السلطة، وهو عقلٌ قد ساد لعقود منذ الاستقلال الأول في 1956، كما يمكن أن يكون الاحتفاء بموقع د. حمدوك ولوحده وجهاً آخر للخضوع لسيادة نفس العقل السلطوي وتفريطاً في واجبات التأسيس من قبل الجميع، والذي تتيحه هذه الثورة. وكلا الموقفين برأيي ينطلقان من منطق الاكتفاء بالسلطة، وأي عقل سلطوي لم يثر غير إرثنا في نقض العهود، كما لن يورثنا سوى مآلات فض السامر. ما لن يُطيقه عقل السياسيين السلطوي هذا، وفي طاقة حركة الجماهير في نضالها نحو التأسيس: إن د. حمدوك قد وقف لصالح تخلق تاريخ جديد يتجاوز كسب وعثرات التاريخ القديم، ويتحمّل مسؤولية تاريخية في مُحاولته لإنقاذ الانتقال وفق تأكيد شروط التأسيس عبر بوابة الاتفاق الذي وقّعه في 21 نوفمبر، والذي تم على مستوى السلطة (بطبيعة طرفيه)، كشرط ضروري (وغير كافٍ بالطبع) لإكمال الانتقال وتعزيز فرص تحقيق التحول الديمقراطي. وهي فرص لا يمكن طرقها من خلال خطب التخوين أو التأييد من قبل أصحاب الامتيازات المدنيين والعسكريين، امتيازات يهددها كسب هذه الثورة، طالما احتفى أصحاب هذه الامتيازات بالسلطة في إطارها الرسمي فقط، وفي تناقض مع حركة الجماهير. والتي تبدو أكثر احتفاءً بسلطتها المستقلة وفق عنفوانها الحالي. لم أجد مثالاً لمقولة النخبة السودانية وإدمان الفشل، أصدق من هذا النقد والسعي للتخوين الذي قابلت به هذه النخبة اتفاق الحادي والعشرين من نوفمبر بين د. حمدوك والفريق البرهان. والإعراض عن اعتبار هذه الخطوة فرصة في اتجاه مُحاصرة وإنهاء انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر، فيه تغافلٌ عن الواقع السياسي ومهددات الانتقال قبل هذا التاريخ. والتي قد لم تختلف بعده عما قبله، بدرجة تجعل ما حدث في 25 أكتوبر أقرب للمفاصلة منه للانقلاب، أعادت فقط تعريف انقلاب حوله "غلاط"، لانقلاب لا "غلاط" حوله؛ انقلاب ممتد منذ اختطاف الأحزاب الأربعة للحرية والتغيير. ويأس الحزب الشيوعي وتراجعه عن العملية السياسية التي كان جزءاً رئيساً في كل مراحلها منذ اختطاف عملية التفاوض نفسها بعد الحادي عشر من أبريل، وحتى انسحابه من قوى الحرية والتغيير في نوفمبر 2020، وفشل "الحزب" في إكمال تجيير إرباك المشهد لصالح خطه المعلن بعد التغيير الكبير في مواقف حلفه السياسي الاستراتيجي: قوى الإجماع الوطني، والانقلاب في موقف حزب البعث الأصل؛ الحليف الاستراتيجي للشيوعي داخل الإجماع، والذي قاد خروج الشيوعي من نداء السودان في السّابق آواخر العام 2016. (*) لا بد من الإشارة هنا لكون تعطيل تطوير بناء قوى الحرية والتغيير كتحالف مؤسسي، قد ساهم فيه بشكل كبير اختطاف تمثيل قوى نداء السودان من قبل حزبي الأمة والمؤتمر السوداني (وخضوع الحزبيين أيضاً للابتزاز بفزاعة الهبوط الناعم)، بنفس الدرجة التي ساهم فيها اختطاف صوت قوى الإجماع الوطني بواسطة حزب البعث الأصل والحزب الشيوعي (وإصرار الحزبين على اعتبار الحرية والتغيير جسماً تنسيقياً وليس تحالفاً سياسياً). ليمارس الجميع سباق حصد النقاط والحيلولة دون قيام مرجعية مؤسسية لتمثيل الثورة (ليست حصراً على القوى السياسية والمهنيين كمنصة للتحريض بالطبع، ولكن لاستيعاب منصة الثورة نفسها)، الأمر الذي أجهض انتقال الثورة على مستوى توظيف انتصارها سياسيًا (خلاف سقوط البشير طبعاً) منذ اعتصام القيادة، والانتقال بالتغيير للمستوى الرسمي، وقاد لهذه الموجات اللاحقة لحركة الجماهير وبذلها للدفاع عن الانتقال الديمقراطي، ولا يقل هنا أداء الحركة السياسية المدنية وحتى قوى الثورة، عن دور المكون العسكري أو قوى الثورة المُضادة في تهديد كسب الثورة إن لم يزد. ___________ (*) ليس القصد هنا من ذكر (أو إغفال) بعض القوى السياسية ودورها في اصدار ادانة مخصصة للأطراف السياسية السودانية، أو أحزاب بعينها بشكل مطلق، بقدر ما أن القصد هو التعرض للأداء السياسي الذي يحكمه عقل سلطوي وهو ما أدنته دائماً، وأظن داخل كل القوى السياسية هنالك هذا الصراع بين التيارين: السلطوي والتأسيسي، وهو ما يجب الانتباه اليه، وخروج هذا الجدل للعلن بدل التعاطي معه كشأن خاص بالحزب.