يبدو الشعر دوماً كمغامرة محفوفة بالمفاجآت، على الأقل هذا ما يحدث لي حين اقرأ الشعر، أحياناً تستهويني مقاطع صغيرة، تشبيه مدهش من ذاك النوع الذي لو قلته كجملة، وليس شعراً، لبني قومي لقالوا لي (قول ما شاء الله) ولو قلته للمصريين لاستعانوا بالرقم (خمسة) وأدخلوه في جملةٍ ما كفاً لشر عينٍ ما. وبذكر العين يُقال، والعهدة دوماً على من كتب ذلك، إن أول من قال الشعر هو سيدنا آدم عليه السلام بنفسه، بمعنى أن أول موضوع للشعر هو الرثاء، وللذين لا يصدقون هذا مفتتح القصيدة الآدمية العصماء: بكت عيني وحق لها بكاها ودمع العين منهمل يسيح فما لي لا أجود بسكب دمع وهابيل تضمّنه الضريح ولكن، كما قال أستاذي في الثانوي في حصة "البلاغة" إن مواضيع الشعر تعددت وتشعبت عند العرب، وكنا حينها قد أُجبرنا على حفظ معلقة عمرو بن كلثوم، ورأينا كيف تعددت فيها المواضيع في القصيدة، فمن افتتاح بغزل لتقريظٍ لشجاعة شخصٍ ما أو ذكر خبر معركةٍ بلا معترك خاضها الشاعر، حتى وصل الأمر لترشيح النفس لولايةٍ أو إمارةٍ كما ذُكِرَ لنا عن المتنبي والذي هو ملكٌ متوجٌ على عرش الشعر عند الكثيرين. ولكني أهيم بتلك الأبيات والمقاطع الشعرية الغنائية أكثر من المعلقات، تلك الابيات والمقاطع التي تُكَثِّف اللحظة، ولئن شئت فإنها تُكَبْسِلها، فتقدم لك صورةً عاديةً بمنظور لا يتسنى إلا للشعراء، فكلما أسمع مقطع (القليب الراسمو حنة يبدو من قلبك أحنّ) أجد نفسي مقذوفاً في عالم من البراءة ورعشات الحب الأولى، وحب الحياة الجارف، وذكريات الأحلام التي كانت لنا مراهقتئذ، حينما تُعلِن المحبوبة عن حبها برسم قلب الحنّاء ذاك على كفها، كيف التقطها حسن الزبير، ذلك سر الشعر، وذلك هو السر الذي قاله شعراً سميّي ود الرضي: ذلك سر الكون أن تبصر في كل حسن آية لله والسحر الإلهي المهيب. ولكني غاوٍ ولستُ بشاعرٍ، وإن كنتُ قد قضيتُ زمناً وأنا تابعٌ لهم، واستمع لأقوالهم التي لا يفعلونها قط، ولكنهم يملأونني فرحاً بقصائد جميلة، ويعرفونّني على شعراء أجمل وكان منهم مظفر النوّاب. مظفرٌ سليل البلد الذي أحدث انقلاباً في الشعر وفي القصيدة، نازك وطاعونها، والسياب وأمطاره التي صبت في العراق ففتحت فتوحاتٍ في الشعر ما زال الجميع يستقي منها ويروي وجداننا. مظفر الصوفي، عاشق الإنسان، وعاشق الكون وعاشق خالق الكون. عرفته من قصيدة بحار البحارين، شريط كاسيت وجدته ملقياً بإهمال في بيت صديق، فسمعته فأذهلني وسيطر على وجداني أياماً وليال، أخذتني القصيدة بكلياتي، أجبرتني أن أسجِّل نفسي كبحار في سفينة بحار البحارين، وأنا الذي لا أُحسن السباحة وأخاف البحر ولا أملك مجدافاً ولا قارباً، كما صوّر مظفر عبد الله الإرهابي. قلت لنفسي هكذا يجب أن يُكتب الشعر، بل هو سحرٌ وليس شعراً، سمعت بعدها كل ما توفر من شعره مقروءاً بصوته، رنّة الصوفي ظاهرة، تخيلته دوماً مثل التبريزي والرومي. لو عاش مظفر زمنهما لأنتج لنا درراً، ولكن زمانه كان قفراً: أهاجُر في القفر وخنجرك الفضي بقَلبي وأنادي عشقتني بالخنجَر والهَجر بلادي ألقيت مفاتيحي في دِجلة أيام الوجد وما عادَ هنالِكَ في الغرفةِ مفتاح يفتحَني هأنذا أتَكلٌم من قفلي مَن أقفَلَ بالوجدِ وضاعَ على أرصفةِ الشام سيفهمني. ولكن لم نفهمه، هجرنا مظفر الصوفي، وتمسكنا بمظفر السياسي، حوّلناه لمجرد كاتب بيانات سياسية، وكأن واقعنا كان يحتاج لبيانٍ آخر لنعرف دناءته. هل كان مظفر يخفي تلك الصوفية التي تعذبه وتشعل قلبه ببياناته السياسية، فتُخفي عذوبة الشعر؟ هل كان ملاماتي يصطاد الذنوب ليتمتع بغفران المعشوق؟ أم خاف علينا من ضعفنا في تَحَمُّل باطن المعنى فألهانا بظاهر الشتم البذيء لساستنا وواقعنا؟ ففرحنا به ورددناه كهتافاتٍ مستهلكةٍ في مظاهرات لا تنتج في آخرها إلا وضعاً أسوأ. مُظفري هو شيخي، وهو بالنسبة لي مظفر الصوفي الذي تعذبه صوفيته، تناله مهما حاول الهرب منها، ومهما أصدر من بياناتٍ سياسية شعرية، ومهما أوغل في البذاءة، فمَنْ مِنْ أهل التصوف وصل هنا: وحِماري يَتركُ في الليلِ مجَرةَ حُزْنٍ بيضاء يُخوِّضُ في العِشق يُشاركني طَرَبي طَرِبٌ بالكون ومن لا يَطْرَبُ بالكَون غَبي من ظنَّ أُبدِّلُ نَعلا مِنه بكَنْزٍ يُخطيءُ في التعَبِ قَرفَصْتُ لأخْصُفَ بَعضَ الصَّبرِ على النهر ففاضتْ لُغَة بمَزامير القَصَب أنا من أختمُ سُبحانَ اللّهِ كِتاب العِشْق أَيُختمُ بالصمتِ على قربي. نعم، من لا يطرب بالكون غبي، كان مظفر يطرب بالكون، ويحب خالق الكون، يستأنس به في وحدته، يعرفه، يستدعيه ليحمي خلقه، في "تل الزعتر" ترجاه أن يحمي أطفال فلسطين، أنزله للأرض، كما رأى قُرب الله لعبد الله الإرهابي. كانت صوفيته طاغية في قصيدة تل الزرعة وفي عبد الله الإرهابي، فمرّت على الذين ينقبون ضمائرنا، لم أسمع من يكفره أو يأخذ عليه أنسنته للإله في القصيدتين. لو سئلت من شاعرك المفضل، لأجبت دون تردد درويش، ولا أنكر ذلك، فدرويش يُرضي غرور قارئٍ نهمٍ مثلي، صعبٌ إدهاشه. فحينما اكتشف ما يخبئه درويش من معارف في قصائده، أفرح فرحة طفل غرٍ. متعتي دوماً أن أبحث عن مراجع درويش وقراءاته التي يخبئها في قصائده. بحثت شهراً ويزيد عن فريد الدين العطّار ومنطق طيره لاستمتع بقصيدة الهدهد، وحينما قرأت ما كتب عن أيام الحصار في بيروت في دورية "الكرمل"، ناولته لصديق محب لدرويش مثلي وقلت له "تفسير بن كثير لمديح الظل العالي" وما زال يُذكِّرني بها حتى اليوم حينما نتكلم عن درويش. ولكن مظفر غير، كان مظفر دوماً لي يمثل حلقة ذكرٍ صوفي مُترعةٌ بالحب، وبالتسليم المُطلق للعشق الذي لا يفنى، يُذكِّرني بذلك الحب الذي بدون قيود للناس وللكون ولله وللشجر وللزهر، ذلك العشق الذي يجعل كل شيء ممكناً ذلك العشق الذي يجعلك تتوحّد مع المعشوق فإذا هو أنت وإنت هو، ذلك العشق الذي ملأ به مظفر جوف بحار البحارين ليوصله لمحبوبته البصرة: لكن أين البصرة يا مولاي؟ وما شأني بالبحر إذاً لا يوصلني البحر إلى البصرة، بل يوصلني البحر إلى البصرة لا يوصلك البحر إلى البصرة بل يوصلني لا يوصلك البحر إلى البصرة بل يوصلني البحر إلى البصرة قلنا لا يوصلك البحر إلى البصرة أحمل كل البحر وأوصل نفسي أو تأتي البصرة إن شاء اللّه وبحكم العشق وأوصلها. لو كنتُ صوفياً لكان مظفر شيخي، ولخدمته أملاً في أن تفيض بركاته عليّ فأتذوق قطرة من عشق المعشوق. لكن مظفرٌ بلغ الآن سدرة منتهاه، حيث لا يُظلم، وحيث ترتاح تلك النفس التي عذبها الوجد الصوفي، ورحمتك يا إلهي وسعت كل شيء فكفيتنا وأنت العالم به وبنا، فإن لم تشمله وتشملنا رحمتك فلن يُتجاوزنا عدلك المطلق. اللهم أشمل مظفر برحمتك وأشملنا معه فقد حببنا إليك أكثر بما كتب.