ستُواصل قمة بكين لمنتدى التعاون الصيني الإفريقي التركيز على قضايا التنمية في إفريقيا، خاصة البنية التحتية، والاستثمار والتمويل، والطاقة الكهربائية، وبناء الحدائق الصناعية، وهي المجالات التي تمثل محور التعاون بين الجانبين. وبالنظر لقائمة مرافقي الرئيس البشير، يُمكن ملاحظة أن أجندة الاجتماعات ستطرق لقضايا متصلة بالتمويل والاستثمار والنفط والطاقة والنقل. وتُمثِّل قمة بكين لمنتدى التعاون الصيني الإفريقي لعام 2018 التي ستُعقد خلال الفترة من 3 إلى 4 سبتمبر المقبل حدثاً كبيراً آخر للصين والبلدان الإفريقية، بعد قمة بكين لمُنتدى التعاون الصيني الإفريقي في عام 2006 وقمة جوهانسبرغ في عام 2015، كما تُعتبر أكبر حدث دبلوماسي تستضيفه الصين في هذا العام لذلك، ستخلق القمة بالتأكيد تاريخاً جديداً. 2 أزمة الديون.. توقُّف الاستثمارات وزيادة المُساعدات العلاقات بين السودان والصين تُعتبر استراتيجية، إذ ترى بكين أن علاقاتها الخارجية مع السودان لم تتأثر بتغيير الأنظمة السياسية، كما هو الحال مع الكثير من دول القارة الإفريقية. واحتل السودان إبان الفورة النفطية المركز الثالث على قائمة أهم شركاء الصين في القارة السمراء. وقفز الميزان التجاري إلى 8.2 مليار دولار أمريكي لصالح السودان في العام 2008م، فيما استثمرت الصين في قطاع النفط أكثر من 15 مليار دولار. إلا أن المشكلة الرئيسية في الوقت الحالي التي أدت لتعليق العديد من المشروعات الصينية في السودان ترتبط بالديون الصينية لا سيما بعد أن فقد الاقتصاد السوداني عائدات نفط دولة جنوب السودان بالانفصال في العام 2011. يمكن القول إن العلاقات بين البلدين ثابتة سياسياً ومتغيرة اقتصادياً بعد انفصال الجنوب، فقد زادت المنح والقروض التفضيلية لنحو 30 مليون دولار سنوياً، بينما تقلصت القروض والمشاريع التجارية. وتبلغ الاستثمارات الصينية في السودان نحو 13 مليار دولار وتشمل مجالات النفط والبنى التحتية والطاقة. وتسعى بكين إلى زيادة قيمة استثماراتها في السودان خلال السنوات القادمة، إذ تهدف لجعل السودان معبراً لها إلى إفريقيا والعالم العربي في إطار مبادرة الحزام والطريق، وقد أعفت الصين في الآونة الأخيرة نحو 24 مليون دولار من القروض الميسرة على السودان، إلا أن حجم قروضها للسودان ما يزال يبدو كبيراً، وتكفي الإشارة فقط إلى أن السودان يدين بنحو مليارين دولار للمؤسسة الصينية الوطنية للنفط "CNPC". بعد انفصال جنوب السودان في العام 2011 تدني إنتاج النفط وتأثرت المشروعات المُنفَّذة من قبل الشركات الصينية، بل إن المشتقات النفطية التي يستهلكها السودان كانت تأتي عبر الاستدانة من الشركات الصينية. وقد أدى انخفاض أسعار النفط العالمية لتوقف الاستثمارات في مجال النفط سواء عبر الاستكشافات أو زيادة الإنتاج، وهو ما أدى لتأخّر مشاريع مجموعة "CNPC" في زيادة الإنتاج، في وقت كانت فيه الحكومة السودانية في حاجة لسد العجز في مشتقات النفط في عامين على كأقصى حد. وعلى الرغم من توجيهات القيادة الصينية للشركة كانت تقضي بزيادة الإنتاج النفطي في أسرع وقت، إلا أن التنفيذ كان يخضع لاعتبارات فنية واقتصادية. فيما واجهت مشروعات بنك التصدير والاستيراد الصيني صعوبات بسبب خروج النفط الذي كان يمثل ضمانة مهمة لعمليات التمويل، ليبقى النقاش حول إمكانية التوصل لضمانات أخرى لا سيما أن السودان غنيٌّ بالموارد الطبيعية التي من الممكن أن تكون ضامناً عملياً للمشروعات. وقد ابتدعت الخرطوموبكين آلية النفط مقابل المشروعات، وبعد ذهاب معظم إيرادات النفط عند انفصال الجنوب، وحاجة الجانب السوداني لأخذ نصيب الشركات من الخام لتغطية الاستهلاك المحلي طلب السودان من الصين تأجيل سداد الديون والاستمرار في تمويل مشروعات الآلية، إلا أن الجانب السوداني لم يقدم ضمانات مقنعة تضمن استمرار انسياب تمويل المشروعات، وحتى الديون التي تمت إعادة جدولتها تعثر السودان بالالتزام في سدادها في المواعيد المحددة. نتج عن ذلك إيقاف الجانب الصيني تنفيذ بعض المشروعات والتباطؤ في تنفيذ البعض الآخر وأضعف ذلك من حماس الجانب الصيني في منح مزيد من القروض والدخول في مشروعات جديدة، بما في ذلك مشروعات زيادة إنتاج النفط. في الوقت الحالي، تُعَدُّ الصين أكبر شريك تجاري للسودان. ويبلغ عدد المشروعات الصينية في السودان نحو 200 مشروعاً وشركة مستثمرة في السودان بقيمة إجمالية تتجاوز 14 مليار دولار؛ فيما يبلغ إجمالي الاستثمارات المصدق بها للسودان حوالي 68 مليار دولار حتى العام 2016م. وتحرص الخرطوم على الاستفادة من الخبرات الصينية لزيادة الإنتاج النفطي في السودان لتعويض خروج النفط من دورة الاقتصاد السوداني، بعد انفصال جنوب السودان؛ بجانب زيادة الاستثمارات وتنويعها في مجالات أخرى كالصناعة عبر الحظائر الصناعية، والتعدين، والزراعة. إلا أن عدم شروع السودان في برمجة ديونه للصين قد يؤدي لحرمانه من الاستفادة من مبادرات الرئيس الصيني في قمة "فوكاك" ومبادرة الحزام والطريق. على كُلٍّ، فإن السودان استفاد كثيراً من علاقته بالصين، ويتطلع الآن لتحقيق مكاسب أكبر؛ فمشروعاته التنموية تحتاج إلى قروض طويلة الأجل، وتقنيات حديثة، لذلك يراهن على علاقته مع الصين لتأهيل البنيات التحتية وزيادة الإنتاج بشكل ينعش الاقتصاد ويحقق نهضة تنموية. ولا يبدو أن هناك خياراً أفضل من البنك الآسيوي للاستثمار الذي أنشئ حديثاً لتحقيق هذه المشروعات، لا سيما أن البنك أنشئ عملاقاً بشكل جعل البعض يشبه بصندوق النقد الجديد الخارج عن سيطرة الدول الغربية. 3 الاستثمارات الصينية.. المحفزات الأربعة تتحرك الشركات الصينية وفقاً للموجهات السياسية، إلا أن عملها يظل محكوماً بلغة الاقتصاد وحسابات الربح والخسارة، لذا فإن النظام الصيني يفصل بين المؤسسات السياسية والاقتصادية، كما أن معظم الشركات العاملة في السودان تتبع لحكومات مقاطعات أو لشركات خاصة، وهو ما يعني أنها قد تلتزم بالتوجيهات السياسية، إلا أنها تُراعي في المقام الأول الحسابات التجارية. وفي العادة، تتساءل هذه الشركات حول المنفعة المرجوة من تنفيذ أي مشروع وفقاً لأربعة معايير: أولها يتعلق بسياسة البلد ومدى مواءمتها لجذب الاستثمارات بجانب الاستقرار الأمني والحماية للاستثمار والعاملين به؛ وسهولة الحصول على تأشيرة دخول للعاملين والموظفين الصينيين؛ بجانب سهولة دخول آلياتهم ومعداتهم للبلد؛ علاوة على سهولة الإجراءات المالية المرتبطة بحركة العملة الحرة. 4 الخرطوموبكين.. آفاق جديدة ومن المتوقع أن يبحث السودان إمكانية جدولة ديونه واستقطاب استثمارات صينية والحصول على قروض تفضيلية سواء في إطار العلاقات الثنائية، أو في إطار مبادرة الحزام والطريق ومنتدى التعاون الصيني الإفريقي. ويعد منتدى التعاون الصيني الإفريقي ومبادرة الحزام والطريق، آليتين مهمّتين، لفتح آفاق واسعة للتعاون بين الصين وإفريقيا. وفي هذا الإطار، ستعمل الصين على تطويع مبادرة الحزام والطريق مع مختلف الاستراتيجيات التنموية في الدول الإفريقية وخصوصيات كل دولة، للإستجابة إلى حاجيات مختلف الدول الإفريقية. وتقوم مبادرة الحزام والطريق التي أطلقها الرئيس الصيني في العام 2013 على أربعة مقومات أساسية تتصل بتنسيق السياسات، وربط البنية التحتية العابرة للحدود، وإزالة الحواجز التجارية، وتداول العملات المحلية، وتعزيز التواصل الحضاري. وتُوفِّرُ المبادرة بجانب فرص التعاون وتطوير قطاعات النقل والطاقة والغذاء، الاستثمار في مجال الابتكار والبحوث العلمية حيث ستنشئ المبادرة 50 مختبراً مشتركاً، بهدف تعزيز التعاون في مجال الابتكار، وستقدم للباحثين الأجانب الشباب خلال السنوات الخمس القادمة 2500 فرصة زيارة بحثية قصيرة المدى إلى الصين، وستُدرِّب 5000 من العلماء والمهندسين والمديرين الأجانب. الأمر المهم أيضاً في مبادرة الحزام والطريق أنه من المتوقع أن يؤدي السودان أدواراً فعالة في مجال إرساء دعائم الاستقرار والسلام على طريق الحرير، بشكل يسهم في تحقيق المقاصد الكلية للمبادرة، لا سيما أن الرئيس الصيني أكد على أهمية أن تتوفر بيئة سلمية ومستقرة على طول دول الحزام والطريق، وهو ما سيسهم في ازدهار المبادرة، خاصة أن طريق الحرير القديم لم يشهد ازدهاراً إلا في أوقات السلم. فيما يتعلَّق بمشاريع الطاقة، فقد بدأ السودان فعلياً في الاستفادة من مبادرة طريق الحرير في إنفاذ أول محطة نووية للأغراض السلمية بالتعاون مع شركات صينية، ويسعى حالياً لبحث فرص تمويل واحدة من أكبر محطات الطاقة الشمسية، فضلاً عن بناء عدد من السدود لمشاريع الري والكهرباء. كما يخطط السودان حالياً لإقامة واحدة من أكبر المناطق الحرة على البحر الأحمر بشرق السودان لتكون محطة رئيسية لخط التجارة الناشئ، بموجب مبادرة الحزام والطريق، كما أن السودان يسعى للاستفادة من المبادرة ككل عبر تطوير البنية الاقتصادية من خلال تحديث مشاريع البنية التحتية. سعت الصين في السنوات الثلاث الأخيرة للتوسع بالاستثمار في القطاع الزراعي السوداني. وأعلنت بكين في العام 2016 عن توقيع عقود استثمار زراعية بمبلغ 60 مليون دولار لتعزيز التعاون والاستثمار الزراعي. وهنا تجدر الإشارة إلى مشروع المسلخ الحديث في غرب أم درمان الذي سيتم بناؤه بالمعونة الصينية، والذي من المتوقع أن يحدث قيمة مضافة لصادرات السودان تقدر بنحو 80 مليون دولار سنوياً. وتخطط الصين لإقامة مشروع "حديقة النسيج" في ولاية الجزيرة بزراعة 450 ألف فدان بالقطن، ونحو مليون فدان بمشروع الرهد، ما يدفع إلى إقامة مصانع للغزل والنسيج والزيوت. في مجال التعدين هناك حوالي 20 شركة صينية تعمل في حوالي 30 حقل تعدين في السودان، حققت هذه الشركات أرباحاً تزيد على 100 مليون دولار. وفي مجال التصنيع، هناك تفاهمات للاستفادة من اتفاقية "فائض الإنتاج" مع الصين التي تقضي بنقل مصانع للسودان، حيث أبدى الجانب الصيني رغبة في نقل مصانع للحديد والإسمنت والزجاج، وما تزال المشاورات والترتيبات جارية في هذا الأمر. أما مجال النقل فقد شهدت تقدماً كبيراً عبر شراكة استراتيجية خاصة في مجال السكك الحديدية؛ فقد ساهمت الصين في تشييد 4 قطارات حديثة (النيل-الجزيرة- الشرق-السلطنة الزرقاء) - والأخيران سيتم تدشينهما لاحقا - فيما هناك مقترحات لتنفيذ خط سكك حديدية يربط بين بورتسودان وتشاد (بورتسودان- نيالا- انجمينا) مع الشركة الصينية SCR-16. ويتطلع المراقبون لإحداث اختراق حقيقي في الاستثمارات الصينية، يُتوَّج بتجاوز عقبات الاستثمار في مطار الخرطوم الجديد (غرب أم درمان) كمشروع استراتيجي. يقول الرئيس الصيني شي جين بينغ: "يمكن للتجربة التنموية الصينية الناجحة، أن تُمثِّلَ مرجعاً للبلدان الإفريقية. على مستوى وضع وتنفيذ الحكومات لخطط التنمية التنمية، والسياسات القابلة للتنبؤ، ومعالجة العلاقة بين الإصلاح والتنمية والاستقرار، إلى جانب كيفية خلق بيئة ملائمة للاستثمار. كما يمكن للجانبين أن يجريا مستوى أكثر عمقا من التبادل، لجعل إفريقيا تستفيد من ميزة النمو المتأخر". خلاصة القول إن المصداقية وتقديم مقترحات ومشاريع استثمارية مقنعة، كفيلان بجذب العديد من الاستثمارات الصينية للسودان بحكم موقعه الاستراتيجي وموارده المتعددة وعلاقته السياسية والتاريخية بالصين؛ إلا أن عدم الثبات الاقتصادي قد يكون عائقاً أمام هذه الخطط الطموحة.