د. عبدالعظيم ميرغني المتعافي لاعب الوسط المتقدم أثارت فيَّ مقالة صحيفة (آخر لحظة) الغراء الأسبوع الماضي بعنوان "المتعافي في حالة تسلل" وتعليق "المتعافي" عليها بذات الصحيفة في اليوم التالي "مداعباً" بأنه لا يمكن أن يرتكب حالة تسلل وهو في الأصل لاعب وسط، أثارت فيَّ تلك المقالة وذلك التعليق بعض ماضي الذكريات. فأول ما وقعت عيني على المتعافي وجذب انتباهي إليه كان وهو في الوضع الطائر، ضارباً الكرة برأسه في إحدى مباريات دوري معهد بخت الرضا بين مدرسة الدويم الريفية الثانوية العامة التي كان ينتمي إليها أبناء مدينة الدويم ومدرستنا (النيل الأبيض الثانوية العامة) التي كنا ننتمي إليها نحن أبناء ريفي الدويم (أو أولاد العرب كما كان يسمينا أولاد الدويم). وكان التنافس بين مدرستينا شديداً ومحتدماً في كافة مناشط بخت الرضا الأكاديمية والرياضية والثقافية في ذلك الوقت. ووظيفة لاعب الوسط المتقدم التي كان المتعافي من بين من يجيدون مهامها الهجومية وصناعة اللعب، تتطلب القدرة على التعامل مع الكرات الهوائية ودقة التسديد بالرأس والتمركز الجيد والمراوغة والاختراق والقدرة على الهجوم. وفوق كل هذا التمتع بالروح الرياضية السمحة التي أوضح ما ترمز إليها ابتسامة المتعافي الشهيرة والمستديمة منذ عهدنا ذاك برغم كثرة "غلبنا" لهم وانتصارنا عليهم. المرة الوحيد التي رأيت فيها المتعافي لاعباً في غير وظيفة لاعب الوسط المتقدم كانت في حلتنا (الكنوز). وكان ذلك في يوم عيد حيث اعتدنا على إقامة مباراة هلال مريخ كفقرة ثابتة في عصر كل يوم عيد، وأظنها سنة استنت منذ عهد آل عثمان صالح الذين قاموا بدعوة مؤتمر الخريجين لزيارة الحلة عام 1942 كأول زيارة للمؤتمر خارج العاصمة، وتخليداً لتلك الزيارة أنشأوا شفخانة وخلوة بالقرية ثم أتبعوهما بتأسيس نادي المريخ الرياضي الثقافي بالقرية كأول الأندية الرياضية الثقافية بتلك المنطقة من النيل الأبيض. في يوم ذلك العيد لعب المتعافي مهاجماً صريحاً وأحرز هدفي اللقاء. فالمتعافي لاعب وسط متقدم خطير، ومهاجم أخطر إذا ما سنحت له فرصة اللعب في وظيفة المهاجم الصريح. المتعافي رجل عملي وجاد في حياته، لا وقت لديه للهزل أو الانشغال بما ليس يفيد، صريح لا يعرف النفاق أو اللف والدوران في تعامله، لا يعترف بالمظاهر، صادق مع نفسه شديد الثقة بها، موغلا في الفردية واستقلالية السلوك إذا ما اقتنع بأمر وحدد منه هدفه. وهذا هو الباب الذي تأتيه من قبله بعض المتاعب في كثير من الأحيان، فهو مع عدم التفاته كثيراً للتعبير عما بنفسه أو الإفصاح عنها بما يكفي لتركيزه على الجوانب العملية من الأمور على حساب النواحي النظرية يعده البعض معتزاً برأيه لدرجة الغرور. عادة ما تذكرني برفاق الصبا وأصدقاء الزمن الجميل حادثة، وقد تستثير ذكراهم مقولة أو أغنية. فأغنية "مريا" تذكرني كلما استمعت إليها بعبد الملك (الترعة الخضراء) فقد كان كثير الترديد لها ونحن بداخلية بخت الرضا الأولية، فحببها إلي قبل أن أسمعها من ملك التطريب حمد الريح وأطرب لها منه. وأغنية "ماضي الذكريات" لصاحب الصوت الذهبي عثمان مصطفى كانت (ولعلها لا زالت) الأغنية المفضلة للشيخ المجاور حالياً للحرم علي (أرقد فايق)، ومنلوج (يا روحي المنسبلة في المخلاية أم طبلة) يذكرني بثلاثي (إيد أم عش) أولاد الأمير (حسن وحسين والصادق) الذين كانوا يتحفوننا به في أمسيات السمر والليالي الأدبية. ومدائح أبو شريعة تذكرني بأحمد (عد العود) الذي من كثرة إدمانه تكرارها لم نعد نعرف له اسماً غير "أبو شريعة". وحارس مرمى داخليتنا الأمين الحاج أذكره كلما انهزم الهلال أو المريخ أو انتصرا، وكلما أحرز بطلانا كاكي وإسماعيل ميدالية، لحبه الصارخ لرياضة كرة القدم حتى أسميناه (أنكرا) على اسم حارس مرمى غاني شهير في زماننا ولعشقه أم الألعاب الرياضية (ألعاب القوى) فأسميناه اسماً رديفاً (الدومة) على أحد نجوم معهد ببخت الرضا في مضمار ألعاب القوى. والراحلة هدى –عليها الرحمة والمغفرة- فتذكرنيها خواتيم سورة البقرة التي كانت آخر ما طلبت مني قراءتها عليها. أما المتعافي فتخطر لي ذكراه كلما مرت بخاطري مقولة المهاتما غاندي المأثورة: "أولاً يتجاهلونك، ثم يسخرون منك، ثم يقاتلونك، ثم تفوز أنت". وما قضية القطن المحور وراثياً التي تبناها المتعافي ببعيدة عن الأذهان. فأول ما أدخل القطن المحور وراثياً للسودان وجدت قضيته تجاهلاً إلا من قلة من باحثي هيئة البحوث الزراعية، ثم ما لبثت أن اكتنف القضية جدل كثيف ما بين مؤيد لإدخاله وما بين معارض. ثم تحولت القضية فجأة من توجسات ومخاوف استخدامه إلى قلق من ظاهرة ضعف إنبات بذوره بمشروع الجزيرة، وأخيراً، انتهت القضية إلى رفع شعار (لا بديل للقطن المحور وراثياً إلا القطن المحور وراثياً). من ضمن الاختراقات التي أحدثتها قضية القطن المحور وراثياً في السودان، وينسب الفضل في ذلك لمناوئي إدخاله قبل مؤيديه، عملية تنشيط وتفعيل قانون السلامة الحيوية السوداني الذي كان معطلاً، وذلك بتحديد الوزير المختص (وزير البيئة والغابات والتنمية العمرانية)، وتسمية الجهة الفنية العليا التي لها سلطة قبول أو رفض إدخال المحاصيل المحورة وراثياً، ولها سلطة وضع المواصفات وإجراء دراسات تقييم مخاطر إدخال المواد المحورة وراثيا واستخدامها. وبإحداث هذه الاختراقات يثبت المتعافي مجدداً إجادته لفنون صناعة اللعب الجماعي النظيف، والتي هي من أهم مقومات لاعب الوسط المتقدم. تتطلب وظيفة لاعب الوسط المتقدم أيضاً التحلي بالروح القتالية والتمتع بالنفس الطويل، وقد أثبت المتعافي الثلاثاء الماضية تمتعه بتلك الصفات. فبالرغم من مشاق السفر الطويل إلى مشروع الجزيرة متفقداً في ذلك اليوم حصاد العروة الصيفية والاستعدادات لتأسيس محاصيل العروة الشتوية، التزم بموعده المضروب مع بعض كبار علماء وزراعيي السودان بالنادي الزراعي في جلسة مكاشفة ومراجعة استمرت منذ التاسعة ليلة الثلاثاء إلى ما يقارب فجر الأربعاء وانتهت الجلسة بوعد باللقاء في أمسية الثلاثاء القادمة. مثل هذه اللقاءات توفر فرص الاحتكاك والذي يولد الخبرات ويكسب الثقة والانسجام بين أفراد الفريق الواحد. فليته كان لقاء شهرياً، كل ثلاثاء من أول كل شهر.