كان تأثير الجائحة أشد في البلدان العربية والإفريقية ذات الأوضاع الاقتصادية والصحية المتهالكة والأقل نمواً؛ حيث تأثرت القطاعات الخدمية مثل قطاعَات البناء والتشييد والسياحة والنقل لا سيما الطيران، والتي شهدت عجزًا كبيرًا من جراء هذه الأزمة والآثار الناجمة عن الإغلاق القسري، والانكماش الحاد في الأسواق، هذا إضافة إلى نقاط ضعف الاقتصاد العربي المتمثل في الديون الاستهلاكية في معظم الدول، كما أدى اتخاذ تدابير إغلاق المؤسسات ومواقع البناء والمتاجر والمعامل والحجر في المنازل ومنع التجوال إلى فقدان الوظائف وتسريح الآلاف من العمال؛ فتفاقمت حالات البطالة مع التزايد السكاني الكبير في الدول العربية والإفريقية. كما كانت الجائحة كارثة حقيقية على الدول التي تعتمد على القطاع السياحي، مثل لبنان ومصر وتونس والمغرب والإمارات، وعلى السياحة الدينية مثل السعودية والعراق؛ نظرًا لتوقف النقل الجوي وإقفال المطارات، كذلك هلاك قطاع الرعاية الصحية بأدواته وطاقمه الطبي الذي استنفد كامل طاقته، أما الدول العربية الأخرى، فتأثرت أيضاً بانخفاض عائدات صادرات المواد الخام، وتراجع الطلب الخارجي نتيجة لتباطؤ النمو، وتباطؤ تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، وانكمش الناتج المحلي الإجمالي عام 2020م بنحو 11.5% بالمقارنة مع عام 2019م كنتيجة لتأثير الأوضاع المذكورة، وهو انكماش لم تعرف الدول العربية مثله حتى في أعقاب الأزمة المالية العالمية في عام 2008م. كذلك كانت الآثار صادمة على الدول المنتجة والمصدرة للنفط، نظرًا لانخفاض أسعار النفط عالميًا بسبب إقفال المعامل والمصانع، وانخفاض الطلب على المواد الأولية كافة لقطاع التصنيع. وأثرت جائحة «كورونا» على تدفق الاستثمارات والوطنية والأجنبية، وهي المحفِّز الرئيسي والأساسي لخلق فرص عمل جديدة، فاتّجهت المؤشرات نحو الانخفاض الحاد في الاستثمار خاصة الأجنبي المباشر، وزاد الأمر سوءاً اضطرار الحكومات العربية لمنح معونات بطالة كبيرة لتفادي انهيار الأمن الاجتماعي، ومواجهة آثار هذه الجائحة، التي سببت الكساد الاقتصادي. تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية: مست التداعيات الاقتصادية والمالية للأزمة الأوكرانية، جميع دول العالم خاصة منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا نظراً للارتفاع الكبير في أسعار الغذاء؛ فوفقًا للبيانات الصادرة عن منظمة (الفاو) فإن كلاً من روسياوأوكرانيا تحتلان مركزاً بالغ الأهمية في سوق المواد الزراعية في العالم حيث توردان ربع إنتاج الحبوب في العالم، وتُمثل صادراتهما من القمح 23% من السوق العالمية. وتتضاعف مخاطر الأزمة في الدول التي تعتمد في واردتها من القمح على روسياوأوكرانيا، ما جعل كثيرا من الدول تواجه تحدياً صعباً لتلبية احتياجاتها الغذائية في ظل تعطل إمدادات المواد الزراعية، خاصة القمح، مع الارتفاع المتزايد لأسعار المواد الغذائية على مستوى العالم، حيث تعتبر الدول العربية وشمال أفريقيا، من الدول التي تعتمد بدرجة كبيرة على استيراد القمح من روسياوأوكرانيا، فتستورد منهما نحو 80% من وارداتها من القمح. هذا إلى جانب استيراد (نترات الأمونيوم) وغيرها من المنتجات الصناعية، وكذلك تعتمد على الصناعات الروسية والأوكرانية، كما أن دول الخليج وبعض الدول العربية الأخرى، تعتبر أن روسيا حليف مهم ومصدر للأسلحة والاستثمار والسلع الأخرى. وأيضاً بالنسبة لأوكرانيا تبادل تجاري مع 18 دولة عربية بلغت قيمته نحو6.3 مليار دولار في عام 2020م؛ حيث تشكل الواردات من أوكرانيا ما نسبته 92% من هذا التبادل، وتعد مصر والسعودية والعراق والإمارات والمغرب وتونس، أبرز الدول ذات التبادل التجاري مع أوكرانيا بمجموع4.5 مليار دولار لهذه الدول الست، وتأتي السعودية بالمرتبة الثانية في الشراكات التجارية العربية الأوكرانية مستوردة ما قيمته 709 ملايين دولار من أوكرانيا، معظمها من اللحوم والشعير والمعادن. وأظهرت التقارير حدوث اضطرابات في إمدادات الحبوب على المستوردين في أفريقيا، حيث إن 35 بلداً من أصل 55 دولة في القارة تستورد القمح وحبوباً أخرى من روسياوأوكرانيا، وأن 22 دولة تستورد الأسمدة من البلدين، وفي أماكن أخرى من شمال أفريقيا، تزامنت الزيادات في الأسعار وانقطاع الإمدادات مع موجات الجفاف الشديدة. وبسبب تأثر وانقطاع سلاسل التوريد بسبب الأعمال العسكرية والعقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد الأوروبي على روسيا بجانب عزل البنوك عن نظام الدفع العالمي (سويفت)، انعكست الأزمة بشكل كبير على زيادة تكلفة استيراد المواد البترولية، وتراجع مستوى الإمدادات من السلع الغذائية وارتفاع أسعارها، ما أدى إلى اتساع عجز الميزان التجاري، وهو الأمر الذي من شأنه زيادة فاتورة الاستيراد مما يُثقل كاهل الاحتياطات النقدية بالدول العربية والإفريقية من العملة الصعبة. وهناك عامل آخر مهم للغاية وهو زيادة أسعار النفط، والبترول والغاز، بسبب فرض الولاياتالمتحدة وأوروبا عقوبات اقتصادية على روسيا، حيث لا تؤدي الزيادات في أسعار النفط إلى رفع سعر الوقود فحسب، بل إلى زيادة أسعار كل السلع والخدمات، وهو ما أدى بالضرورة إلى ارتفاع أسعار النقل والإنتاج بالنسبة لجميع السلع سواء الصناعية أو الزراعية والحيوانية وسبب فعلياً اضطرابات في الأسواق، ورغم استفادة الدول المصدرة للبترول والغاز، لكن ما ستحصل عليه يكون أقل من الزيادات فى أسعار المواد الغذائية والسلع الأخرى التي تستوردها. وأدت زيادة أسعار الطاقة والغذاء إلى زيادة التضخم في بعض البلدان العربية والإفريقية التي تعاني بالفعل من تضخم شديد، ما أضاف أعباء جديدة على الموازنات تصل إلى مليارات الدولارات وزيادة الضغط على مستويات الإنفاق، مما اضطر البنوك المركزية لتسريع وتيرة السياسات النقدية المتشددة، ورفع أسعار الفائدة لمحاولة امتصاص التضخم، وترتب على ذلك معاناة العديد من الدول المدينة من ارتفاع تكلفة خدمة ديونها، فضلاً عن التباطؤ المتوقع للنمو الاقتصادي، والركود الشديد في الأسواق، وأدى هذا المزيج إلى صدمة (تضخمية مصحوبة بركود) حيث يحدث (التضخم المصحوب بالركود) عندما يواجه اقتصاد الدولة ارتفاعاً في الأسعار وركوداً في نفس الوقت. ومع انكماش سوق الأوراق المالية – فضلاً عن انخفاض فرص العمل للعاملين الوافدين بدول الخليج – هبط ما يصدر عن بلدان المجلس من تحويلات واستثمارات أجنبية مباشرة. ما أثر بشدة على الأرصدة الخارجية للبلدان التي تعتمد على تحويلات أبنائها بالخارج. كما أن هناك تأثيراً غير مباشر سيظهر في تأثر الاقتصاد بعض الدول العربية والإفريقية، نتيجة العقوبات التي تم فرضها على روسيا من جانب الغرب، فالتعامل مع البنوك الروسية سيكون صعباً، كما أن أسعار المواد الأولية على مستوى العالم كافة سترتفع، وستتأثر حركة التجارة العالمية، وتفاوت أثر الأزمة العالمية على البورصات تفاوتاً كبيراً من بلد إلى آخر، فالأثر كان واضحاً في البلدان التي صلاتها مع الأسواق المالية العالمية قوية، حيث هبطت مؤشرات البورصات في هذه المنطقة بحوالي 50%، كل تلك التأثيرات الدولية ألقت بظلالها القاسية على الاقتصاديات العربية والإفريقية. وفي مقالنا القادم سوف -بإذن الله- نتناول كيفية مواجهة تحديات هذه الأزمة الاقتصادية العالمية، والتدابير والخطط والقرارات الواجب اتخاذها لدرء آثارها مبكراً للحيلولة دون وقوع انهيار اقتصادي في دولنا العربية والإفريقية.