لم يكد الاقتصاد العالمي يجد طريقة إلى التعافي من أزمات الركود، وارتفاع الأسعار، واضطرابات سلاسل الإمداد العالمية، الا واندلعت في بدايات العام الحالي 2022م الحرب الروسية الأوكرانية،حيث تزامن اندلاع الحرب مع بدء مختلف دول العالم مرحلة التعافي من تبعات انتشار وتفشي فيروس كورونا، على مدار العامين السابقين، وما تبع ذلك من آثار اقتصادية ضخمة وعواقب سلبية بالغة الخطورة. وتسببت الحرب في ضرب الاقتصاد العالمي ضربات موجعة، وعمقت جراحه الناجمة عن تداعيات فيروس كورونا، وهو ما انعكس في زيادات ضخمة في أسعار الطاقة، والمحاصيل الزراعية، كما أسهمت الحرب في ارتفاع نسب التضخم بصفة عامة مع الارتفاع الكبير في الأسعار، ودفع ذلك لتدخلات قوية من البنوك المركزية الكبرى حول العالم -كبنك الفدرالي الأميركي، والبنك المركزي الأوروبي-إلى رفع أسعار الفائدة، لمواجهة ارتفاع نسب التضخم، ما نتج عن ذلك من انخفاض في النمو وإبطاء كافة الأنشطة الاقتصادية. ولم تقتصر عواقب الحرب على مجرد اهتزاز الأوضاع في هذين البلدين وحسب، لكنها طالت العالم بأسره، وزادت من المصاعب الاقتصادية خاصة في الدول النامية نظرا للارتفاع الكبير فى أسعار البترول والغاز، وارتفاع أسعار النقل والإنتاج بالنسبة لجميع السلع سواء الصناعية أو الزراعية والحيوانية، وزيادة تكاليف السلع الأولية الضرورية، وتفاقم أزمة الطاقة، وتوسع أزمة الغذاء وانهيار سلاسل الإمداد، وحدوث طفرة في أسعار السلع الأولية مما زاد من الضغوط التضخمية الناشئة عن انقطاعات سلاسل الإمداد، وبالتالي دخول العالم في موجة جديدة من التضخم، دفعت بمنظمة التجارة العالمية إلى أن تخفض توقعاتها للنمو الخاصة بالعام الجاريمن 4.7 في المئة إلى 2.5 في المئة. وظهر تأثير الأزمة الأوكرانية-الروسية على خطوط الإمداد والسلع الغذائية العالمية، والتي تسيطر على رُبع الصادرات العالمية؛ حيث قفزت أسعار السلع إلى أرقام كبيرة تصل في زيادتها إلى 80 في المائة، على الرغم من ارتفاعها أساساً منذ بدء الجائحة، وتفشي وباء كورونا، حيث إنكلًّا من روسياوأوكرانيا ينتجان 15 في المئة من القمح العالمي، بالإضافة إلى إن كلا البلدين من المنتجين الكبار لزيت الذرة وزيت عباد الشمس. كما يعتمد كثير من دول العالم على روسيا في تأمين إمدادات العديد من المعادن والمواد الخام المستخدمة في عدد من الصناعات خاصة صناعات الإلكترونيات، وصناعة السيارات والأجهزة المنزلية، وفي ظل الحرب الدائرة وفرض عقوبات غربية على الاقتصاد الروسي تأثرت سلاسل التوريد العالمية، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع أسعار تلك المواد التي تعاني بالفعل من أزمة في نقص الرقائق وأشباه الموصلات، كما تعد روسيا عملاقًا في مجال السلع الأساسية، وتحتل المرتبة الأولى في إنتاج الغاز الطبيعي والنفط والنيكل والبلاديوم والنحاس والفحم والبوتاس. وتعد أوكرانياًأيضاً إحدى أهم الدول المصدرة للمنتجات الزراعية في العالم، وتحتل المساحات الزراعية أكثر من ثلثي مساحتها، وتبلغ صادراتها من الذرة أكثر من 4.8 مليار دولار، وزيت زهرة الشمس 3.8 مليار دولار، والقمح 3.11 مليار دولار، أي ما مجموعه 11.7 مليار دولار، حيث لم تلقب أوكرانيا ب«سلة خبز أوروبا» عبثاً، فعلى المستوى العالمي، هي تشكل 12 في المائة من إنتاج القمح، و16 في المائة من إنتاج الذرة، و18 في المائة من إنتاج الشعير. وأثرت الحرب على عمليات الشحن والنقل العالمي للبضائع، من خلال تعطل النقل في البحر الأسود وبحر البلطيق لتأثير الحرب على النقل الدولي، ما تسبب في ارتفاع تكاليف الشحن نتيجة ارتفاع وقود النقل البحري، كما كان من آثار الانتشار السريع للأزمة الاقتصادية بين مختلف دول العالم أن اضطرت الولاياتالمتحدةالامريكية التي عانت من نسبة تضخم هائلة إلى رفع أسعار الفائدة عدة مرات؛ ما تسبب في ضربة قوية للأسواق الصاعدة، حيث عندما ترتفع أسعار الفائدة الأمريكية، يؤدي هذا عادة إلى خروج الاستثمارات المالية من الدول النامية. ولعل رئيس الوزراء المصري الدكتور مصطفى مدبولي أوضح في تقرير رسمي لمجلس الوزراء، أن هذه تعتبر أسوأ أزمة يمر بها العالم بأسره منذ عشرينيات القرن الماضي، ولم تحدث منذ الحرب العالمية الثانية، حيث قدرت خسائر الأزمة الاقتصادية الراهنة على مستوى العالم كله بما يقرب من 12 تريليون دولار بما يمثل 5 أضعاف الناتج المحلي لقارة أفريقيا بأسرها، كما أن تلك الخسائر تعادل الناتج المحلي الإجمالي لأكبر أربع دول في قارة أوروبا، وهي ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإنجلترا، وتساوي هذه الخسائر الناتج المحلي الإجمالي ل 6 دول من النمور الآسيوية والمتقدمة في قارة آسيا، كما وصل حجم المديونية على الحكومات على مستوى العالم إلى 303 تريليونات دولار، مشيراً إلى التقارير التي ذكرت أن 60% من بلدان العالم الأشد فقراً أصبحت في حالة مديونية حرجة، كما أعلنت بعض الدول عدم قدرتها على سداد التزاماتها. وتنبأ المعهد الوطني للبحوث الاقتصادية والاجتماعية بالمملكة المتحدة بتراجع الناتج المحلي الإجمالى للعالم بحلول العام 2023م، بما قيمته تريليون دولار، وارتفاع معدلات التضخم عالمياً بنحو 3 نقاط مئوية فى العام 2022م ونقطتين مئويتين في العام 2023م. وفي المقال القادم -بمشيئة الله-سنتناول بالتفصيل تداعيات هذه الأزمة الاقتصادية العالميةعلى دولنا العربية والأفريقية.