على طول تاريخنا الاجتماعي ومنذ التركية وحتى الحكم الثنائي ركّب الاستعمار ثنائية اجتماعية في السودان، قسّم بموجبها المجتمع الذي يريد السيطرة عليه إلى: بنى اجتماعية إنتاجية تركزت في الشمال والوسط (زراعية) وهي البنية التي انتجت الأفندية، ومنها ظهرت القوى الحديثة، وهي كذلك من سمحت له هذه الوضعية بالبقاء في مناطق الانتاج والامتياز، ولذا باتت تشكل معنى جديد في الظاهرة تطورت أدوات هيمنته رغم عنه بعد خروج الاستعمار، وهذا جعلها ترقى لمستوى اجتماعي تملك فيه مظاهر سلطة النخبة ساكنة المدينة، وبموجب ذلك حلّت محل الاستعمار الثقافي بما توفر لها من أدوات القوة، ومن هذه الطبقة خرجت القيادات السياسية والاقتصادية والثقافية بطبيعة الحال، وفئة أخرى صنعها المستعمر وحفّز وجودها الاجتماعي عبر تحديد موقع لها داخل قوات دفاع السودان وذلك بموجب وضعية جديدة أهم حيثياتها أن تتوفر شروط فقدان الحاضنة الاجتماعية في هذه التكوينات وهو ما سمي ب(الانبتات القبلي) وهو شرط يسمح لمن ينتمي لمجموعات غير نيلية بالحصول على موقع اجتماعي (جندي) يستخدمه المٌستَعمر لصالح كسب ولاءه بفضل هذا التموقع الجديد لهذه المجموعات، ثم يوفر للمستعمر قوة ضاربة يمكن استخدامها ضد المدجنين بفعل الامتياز حال تمردوا على من منحهم هذه الوضعية المتميزة عن بقية السودانيين. لقد كان من فلسفة الاستعمار وهو المالك لحقائق اجتماعية حول التكوينات العرقية والقبلية في السودان، والواعي بأهمية استخدام هذا التباين الثقافي والحضاري بين المجموعات السودانية، كان له أن دبّر سياساته على هدى صناعة النخبة الخادمة لمشروعه الراهن والمستقبلي عبر تحديد مصادر هذه النخبة من مناطق بعينها، وبالفعل تشكلت المدينة السودانية الجديدة من طبقة المتعلمين الوارثين لمهام الدولة الحديثة (أفندية)، وهؤلاء معفيين من استخدام القوة حتى لحماية مصالحهم، أما أمر حراسة الامتيازات فهو موكلٌ لعناصر أخرى هي من بقية جيش محمد علي (باشا) مثل من شاركوا كتشنر في استعادة خرطوم (التُرك) وكتائبه تشكلت في جوهرها من هذه الطبقة الجديدة التي صنعتها الجندية الاستعمارية بالولاء لها قبل الجغرافيا المصنوعة. وفي مقابل هذا التراكم البنيوي لسلطة الفرد الممتاز، كان في المقابل مجموعات عرقية قتالية شكلت عصّب مؤسسات عنف الدولة وتحمل في جوفها غبناً اجتماعياً ظهر للعيّان بعد تغيّر المعادلة الاجتماعية في السودان، أي بعد التحولات في مؤسسات التعليم وهي التي جاءت لتمنح مساواة متأخرة بين السودانيين لا على أساس الانتماء العرقي أو الجغرافي بل بشرط الكفاءة والقدرة والفاعلية، وهنا تسربت قوى جديدة إلى حقل الأفندية، وبما أنهم أقلية فقد كانوا بمثابة مظهر جديد للانتقال بالتهميش من حيز النسيان إلى موقع المقاومة، ولذا لم يكن مستغرباً أن يقود شخص مثل جون قرنق جيشه لمحاربة (الجلابة) والنخبة النيلية، وهو بالموقع ينتمي إلى هذه النخبة، والدافع الذي جرّه للخروج عليها هو هذا الذي أشرنا إليه، أي رغم المساواة الظاهرية بين السودانيين، ودخول أعضاء جدد إلى نادي النخبة، ولكنهم ظلوا أقلية تقف في وجه تعنت الأغلبية المالكة للوظيفة بالأصالة لا بالقدرة والكفاءة فقط، ولذا وجد الأعضاء الجُدد أنهم ورغم تمثيلهم داخل الطبقة الممتازة إلا أن عوائق جمة تحول دون انخراطهم بكثافة في أعمال النخبة وحصائدها، فهم وإن كانوا على قدم المساواة في التحصيل العلمي والكسب المهني إلا أن تاريخاً من اللعنات يطاردهم ولو في صمت ممن يروهم يمثلون هذا المحفل الذي يكتظ بالأعداء رغم أقنعة المواطنة الزائفة. لقد جرى وعبر تاريخنا الطويل محاولات لتحريك البنى الاجتماعية السودانية وتغيير مواقع بعض تكويناتها، ولعل كل حروب ما يسمى ب(الهامش) هي تمثيل لنظرية النادي السري للنخبة التي تركزت بفعل سياسات الاستعمار في الوسط والشمال وأطراف من الشرق، وحتى من استطاعوا كسر هذا الحاجز بين الأغلبية وارثة الامتياز بالعرق والثقافة وبين القادمون لحجز مقاعدهم في الصالة، لم يشعروا أنهم ينتمون في الحقيقة إلى هذه الطبقة، وهم إن كانوا في الظاهر ممن يشكلها إلا أنهم أقلية ملعونة وممنوع عليها الانتقال بأكثر مما نالت. لقد ظلت الجماعات الثقافية السودانية ورغم مظهر التعددية الثقافية تتمع بحقها في التعليم والوظيفة في حدود ما تقرره سياسات الدولة، ألا أنه لا يسعنا إنكار أن المستويات العليا من المؤسسات السياسية والاقتصادية ظلت محتكرة لها، وظلت كذلك الجماعات التي تشكل عماد مؤسسات عنف الدولة تتكون من جماعات ثقافية أُبعدت بفضل سياسات استعمارية لم يتم التصدي لها بشكل منهجي هذه المجموعات هي التي ظلت تدافع عن مصالح هذه القوى الحديثة. والآن نعيش لحظة شديدة الحرج ستدفع بالقوى النائمة أو لنقل الناعمة للتحرك من موقع استثمار الامتياز والتمتع به إلى مرحلة الدفاع عنه، وهذا قد يفضي إلى تبدلات واسعة في الفضاء الاجتماعي السوداني وقد يُعدل من قانون القوة والثروة في السودان، فهذه الحرب الدائرة والتي استنفرت قوى جديدة انتقلت من خانة الامتياز إلى خانة الدفاع عنه، فإنني لا أكون متشائماً إن قلت بأن هذه المعادلة قد تدفع بالجدد في ساحات المدافعة عن الحق في الفوقية والنخبوية وحصد الحق عبر الاعتلاء فوق الظاهرة إلى امتلاك وعي جديد يسوقها للنظر في إمكانية الاكتفاء بوجودها الحضاري وإقصاء آخرين تحولت قواعدهم من مواقع حماية المصالح إلى تهديدها، وهذا سيقود إلى معنى انفصال ثقافي قد يمهد إلى انفصال سياسي وجغرافي ليس ببعيد، هذا إذا لم نتدارك الأمر ونعيد صناعة سياسات مواطنة حقيقية لا تعتمد على التاريخ الفردي للنخبة بقدر استنادها على توزيع الحقوق على المستحقين من أبناء الوطن جميعهم، إذ تظل قناعتي أن الفرصة لا زالت مواتية وممكنة أن نعيد صناعة وطن يسع الجميع.