أنا ضنين كتابةٍ وشحيح حرف، كما وأنني مشحُّ دمعٍ وعصيُّ بكاء، لا أذرف الدمع إلا لمن قال لعينيَّ اذرفا، ولئن بكيتُ فذلك عندي في الحادثات قليل. أما ومن فعلتُ فيه ذلك؟ ومن فعل بي ذلك؟ فهو رفيق مجلسي ومجاور مقعدي، بل ومتبادلٌ معي ومتبادلٌ معه مقعده بالمكتب الفني لصحيفة (السوداني) أخي وأستاذي ورئيسي في قسم التدقيق اللغوي بالصحيفة، الراحل عبد الله بله، الذي انهال عليَّ نبأ رحيله، فما استعصت عليَّ إذن دموعٌ، وما تباطأ مني نحيب. ولِمَ لا، فقد افتقدت بل وانتُزع مني من كان رفيقي في العمل وأخي في (الخوة) بل يمكن أن أقول إنه كان لي بمثابة ال(فردة) بمعناها المترع البليغ وليس كإصطلاح (شوارعي)، فلم يكن يفصل بيننا، كل يوم، غير أقل من متر واحد في المكان، وأما الزمان فقد استمرت رفقتنا سنين عددا كنت اقضي معه فيها من الوقت ما يقارب ذلك الذي اقضيه مع الأسرة، تلك التي يتوزع اليوم بينها وبين مواقع عمل. لقد كتب غير ما واحد من الزملاء ومعارف الفقيد عن سمح خصاله وطيب قلبه وبشاشة وجهه إضافة لتميزه المهني إلا أنني سأتناول شقاً آخر من حياة الرجل وهو ما يتعلق بأعمال الخير، وهو ما لا يعلمه عنه كثيرون، وما كان لي أن أعلمه عنه إلا لقربي منه، فمن يبتغي بالصالحات وجه الله تعالى فلا يتحدث عنها في المجالس ولا يعلمها إلا القليل، وإلا القريب، وكذلك لا تعرف إلا بعد الرحيل. الا انني وقبل أدلف في ذلك فيحق عليّ أن اذكر شمائل الرجل في حسن التعامل مع إخوته في قسم التصحيح، فبالرغم من أنه لم يكن رئيس قسم التدقيق اللغوي في الصحيفة فقط بل هو شيخ المصححين بالسودان حيث قضى في هذا المجال أكثر من خمسة وأربعين عاما، فالبرغم هذا فلم يتعال يوما على أحد منا، ونحن مرؤوسيه وتلامذته، بل استفدنا منه أيما استفادة، فكم كان ما يدلقنا بالإفادات والفتاوى اللغوية، أما إن اكتشف من أحدنا خطأ فما أرق لفته إلينا في ذلك. وأنا شخصيا فأروي عنه موقفا عالقا بالذاكرة وأنا في بدايات قدومي للصحيفة فقلت له يومها ممازحا "أسمع يا عم بلة أنا عاوز منك عفو شامل كامل، لأني حا آكلك في الوردية، لاني حا أجيك يومي متأخر شوية، لكن لمن أصل بعوضك بالسرعة، أنا لقبي أبو سريع، وأنا في التأخير دا ناس الجيش (قصدي الدفاع الشعبي) ما قِدْروا عليّ، أنا في الطابور كنت بجي آخر زول، وبعدين مشيت للدكتور قال لي عندي جينة وراثية اسمها التأخير وتفسيرها العلمي إنك جيت الحتالة"، فيضحك الرجل ويقول لي "ما عندك أي مشكلة تعال زي ما داير بس يوم الأحد دا، تعال لي بدري لأنو عندي ارتباط". وفي أحيان قليلة كنت أتأخر عليه حتى في يوم الأحد نفسه، وبمجرد مقدمي يرمقني بنظرة عابرة ثم يواصل تصحيحه للمادة التي أمامه، فأفهم أنه عتاب لطيف فأقوم بالربت على كتفه وأبدأ أروي له عن الظرف الذي أخرني ولكنه، وفي خلق جميل، لا يدعني أكمل الحكي فيحول الموضوع إلى اتجاه آخر ثم يبدأ الونسة.. كم كان أبيضَ نقياً متسامحاً.. ذلك القلب. أعود فأقول، كان الرجل وخلافاً ما قد يظن به البعض خطأً، من كونه كان يشغل عدة مواقع، كانوا يظنون ذلك بدافع من حب المال وشغف اكتنازه، لكن الحقيقة التي لا يعلمها هولاء أن الرجل كان منفقاً معطاءً، ما امتلأ جيبه إلا وفرقه، وحسب ما ذكر لي قبيل وفاته أنه كان يعول خمس أسر من أرملة وذات أيتام وأقارب و..الخ، فاستحق بذلك تبشير نبينا الكريم له ولأمثاله عندما قال عليه السلام "أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين" وأشار للسبابة والوسطى، فنحسبه بهذا الحديث في رفقة المصطفى صلى الله عليه وسلم. حكي لي الراحل مرة أنه تم تكليفه بتصحيح مجلة عاجلة فسهر فيها مساء ذلك اليوم في منزله إلى ما بعد الثالثة صباحا وفي الصباح استلم مستحقاته بقرابة الخمسمائة جنيه وقد أقسم لي بأنه عندما حضر لتوه للمكتب لم يكن معه منها في جيبه سوى عشرة جنيهات حيث قام بصرف المبلغ في عدة جهات فقام بتحويل رصيد إلى امرأة ذات أيتام وأخرى قريبة.. وثالثة..الخ، إضافة لمصاريف أسرته وليوم واحد، كم هولاء الذين يؤثرون الآخرين على أنفسهم بل وعلى أهل بيتهم؟ والغريبة في الأمر فقد حضر ومعه سندوتشان فقط محتواهما الفول، ليس إلا، ومع ذلك تناول واحدا وانتظر بالآخر حتى آخر اليوم يسأل بين كل فينة وأخرى "يا جماعة في زول ما فطر؟". إنه الجمع بين الإنفاق على الأيتام وأصحاب الحوائج، ضف له الإيثار الذي جعله يقبض الآلاف ثم يطعم نفسه بالفول، ثم الكرم باقتسام الطعام. بل كان الرجل وحسب ما روى لي مرة أنه في صحيفة الخرطوم كان يصنع لزملائه في الصحيفة حلة الطعام في بعض أيام العطلات ف"يسبكِّها" لهم، حتى أطلقوا عليه لقب (عبدالله حلة). ما أعظم من يصنع الطعام لإخوانه وزملائه بل ولأبنائه، فهو ذو الشيب يأكل من صنع يده الشباب، كما يأكل منه بنوه، وصنع الطعام صنعة النساء، فتأتي تأكل من صنع يده النساء، إنه التواضع وإنه الأجر العظيم قال رسول الله عليه وسلم (لقمة في جوف أخيك مثل أُحد ذهباً) أو كما قال عليه الصلاة والسلام. كان الراحل سمحا في تعامله مع زملائه وحتى مع من منعوه أو أخروه في استحقاقاته، فأذكر مرة أنه اتصل بأحدهم وحياه بعبارة "كيف حالك وأحوالك وأولادك ووليداتك" والتي كان كثيرا ما يحيي بها ثم أعقبها بعبارة "أها عملت لي شنو في موضوعي؟"، وبعد انتهاء المكالمة يلتفت إليَّ قائلا "تعرف يا باسط" وكان دائما ما يناديني بذلك " تعرف الزول دا أنا عاوز منو مبلغ كذا (...) وكل مرة يماطلني"، فلنتأمل عبارات الرجل الأولى في تحيته للرجل برغم أنه مماطله، ثم أنه لم يُسْمعه كلمة جارحة عندما لم يخرج منه بشيء. إنها السماحة.. فكان سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا قضى واقتضى، أليس التصحيح بيعاً لجهد؟!. وفي مرة اتصل بمماطل آخر ليسأله عن (حقه) فوجده في الأراضي المقدسة حاجاً، فترك موضوعه وأخذ يكرر عليه عدة مرات قائلا "عليك الله يا فلان أسأل لي ربنا يقدر لي أحج السنة الجاية". ولكن تشيء الأقدار الإلهية أن يرحل الرجل قبل تحقيق أمنيته، وإني لا أعزي روحه بعدم تحقيق مبتغاها بل بالعكس فإنني لأبعث له البشرى ولغيره ممن منعتهم كفالة الأيتام وغيرها من الصالحات عن حج بيت الله، ويا لها من بشري، فهي من رسول الله صلى الله عليه وسلم... فمن (النت) أبعث إلى روحك أخي بله وأنت في مرقدك بهذه القصة.. كان عبد الله بن المبارك – رضي الله عنه – يحج عاماً ويغزو في سبيل الله عاماً آخر، وفي العام الذي أراد فيه الحج.. خرج ليلة ليودع أصحابه قبل سفره.. وفي الطريق وجد منظراً ارتعدت له أوصاله. واهتزت له أعصابه..!! وجد سيدة في الظلام تنحني على كومة أوساخ وتلتقط منها دجاجة ميتة.. تضعها تحت ذراعها.. وتنطلق في الخفاء.. فنادى عليها وقال لها: ماذا تفعلين يا أمة الله؟ فقالت له: يا عبد الله – اترك الخلق للخالق فلله تعالى في خلقه شؤون، فقال لها ابن المبارك: ناشدتك الله أن تخبريني بأمرك.. فقالت المرأة له: أما وقد أقسمت عليّ بالله.. فلأخبرنَّك: فأجابته دموعها قبل كلماتها: إن الله قد أحل لنا الميتة.. أنا أرملة فقيرة وأم لأربع بنات غيب راعيهم الموت واشتدت بنا الحال ونفد مني المال وطرقت أبواب الناس فلم أجد للناس قلوبا رحيمة فخرجت ألتمس عشاء لبناتي اللاتي أحرق لهيب الجوع أكبادهن فرزقني الله هذه الميتة.. أفمجادلني أنت فيها؟ وهنا تفيض عينا ابن المبارك من الدمع وقال لها: خذي هذه الأمانة وأعطاها المال كله الذي كان ينوي به الحج.. وأخذتها أم اليتامى، ورجعت شاكرة إلى بناتها. وعاد ابن المبارك إلى بيته، وخرج الحجاج من بلده فأدوا فريضة الحج، ثم عادوا، وكلهم شكر لعبد الله بن المبارك على الخدمات التي قدمها لهم في الحج. يقولون: رحمك الله يا ابن المبارك ما جلسنا مجلسا إلا أعطيتنا مما أعطاك الله من العلم ولا رأينا خيرا منك في تعبدك لربك في الحج هذا العام، فعجب ابن المبارك من قولهم، واحتار في أمره وأمرهم، فهو لم يفارق البلد، ولكنه لا يريد أن يفصح عن سره. وفي المنام يرى رجلا يشرق النور من وجهه يقول له: السلام عليك يا عبدالله ألست تدري من أنا؟ أنا محمد رسول الله أنا حبيبك في الدنيا وشفيعك في الآخرة جزاك الله عن أمتي خيرا.. يا عبد الله بن المبارك، لقد أكرمك الله كما أكرمت أم اليتامى.. وسترك كما سترت اليتامى، إن الله – سبحانه وتعالى – خلق ملكاً على صورتك.. كان ينتقل مع أهل بلدتك في مناسك الحج.. وإن الله تعالى كتب لكل حاج ثواب حجة وكتب لك أنت ثواب سبعين حجة. فقد نلت أجر الحج أخي (بله) ونلت ما نلت من البشرى، وصلى عليك الله يا رسول الله. كان الراحل (حقانياً)، فبمثل ما يطالب بحقوقه فهو يحرص على حقوق غيره عليه، فأذكر أنه كلفني أحد الأيام بأن أحضر معي غداة ذلك اليوم مبلغا من المال كسلفية، وذلك لحاجته الماسة له فالتزمت له وكنت أظنه مبلغا كبيرا ثم نسيت الأمر، فحضر لي في الصحيفة حوالي منتصف الليل وكنت أعمل سهرة فاعتذرت له بعدم تمكني من تجهيزه ووعدته بتجهيزه في غداته، عندها شعرت بالحسرة في وجه الرجل، وقبل أن يتجه قافلاً سألته "إنت عاوز كم يا عم بلة؟"، فقال لي "داير لي ستين جنيه بس" فقلت له "وداير بيها شنو الستين الجاي ليها نص الليل دي؟!!!"، فتأملوا معي رده، قال الرجل "الحبشية الشغالة عندنا قروشها ناقصة ستين جنيه، ولي يومين قدر ما حاولت ما لقيت أتمها ليها"، فأخرجت له المبلغ فورا واعتذرت له بانني كنت أظنه مبلغا كبيرا. ووالله إن الرجل غادر فورا يملؤه شعور بانزياح الهم وكذلك بالفرح لكأنه طفل صغير أعطيته (حق الحلاوة). أما أنا فقد أخذت أتفكر في موقفه، وأحمد الله على نعمة التفكر، فهناك من المواقف ما يجب التوقف عندها، فقد قلت في نفسي "كم أنت حقاني يا بله"، كان يمكن أن يقول لها "ما عندي"، "ما صرفونا"، اصبري يوم يومين"، و(ما اسهل مماطلة الأحباش؟!) ولماذا؟ فقط لأنه (ما أطيب الأحباش؟ ومن أكثر منهم مسكنة؟)، وفي عالم الإيجارات يقال لك "أجِّر بيتك لحبش ما بتلتلوك في المرْقة وما بجرجروك لي محاكم.. ما عندهم شدايد"، هل في مكتب العمل رأيت حبشيا مستظلما أو حبشية مستظلمة؟! قد ترى البنغالة.. الوافدين الجدد، أما الأحباش فلا، مثل هولاء والذين يمكن ان يُظلموا ولا يستظلمون من ظالمهم، هولاء عند عبد الله بله فإنهم لا يُظلمون أو يُماطلون بل يُسعى لهم بالليل والنهار للإيفاء بحقوقهم. منْقبة أخرى للراحل أنه وبرغم الحزام الأسود الذي كان قد ناله في الملاكمة فقد كان الرجل هينا لينا، ولم أسمع يوما أنه استغل قوته بالاعتداء على أحد بل حتى ولا بكلمة، حيث لم أسمع بأنه دخل في خصومة مع أحد. ربما يكون هناك موقف واحد استدعى الراحل اضطرارا لاستعمال قوته، ولكن في غير ما بطش أو تجاوز لما اقتضاه الحال، وهي قصة جديرة بالحديث عنها، فقد روي أنه ظل يلاحق المسؤول المالي بإحدى مواقع عمله وظل صاحبنا يماطله "ما في قروش" فيخرج الراحل منه مصدقاً صديقاً. وفي مرة رأى صاحبنا وهو يحمل عدة رزم مالية، ربما في طريقه بها إلى البنك لتوريدها فاتجه إليه الراحل وانتزغ منه بقوة إحدى الرزم وأخذ يعد منها راتبه (طق.. طق.. طق) ثم أرجع له الباقي قائلا "إتفضل"، ولم يزدها ولم يسبه، رغم أنه قد كذبه قبل قليل بقوله " مافي قروش"، كما لم يستعمل قوته بأكثر مما اقتضى. اللهم أرحم عبدك عبد الله بله، وقد وفد إليك، فقد كان يسهر الليل والناس نيام، يُجهد العينين، ثم يأتي صباحاً يفرق كسبه على الأيتام والأرحام، وكان يطعم الطعام ويقتسم الطعام، وأوتي في الجسم بسطة وقوة إلا إنه كان يحيا في سلام ويباشر الناس بالسلام، اللهم أنت القائل (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)) سورة البقرة، اللهم نشهدك، وأنت تعلم بذلك، أن عبد الله بله كان يعمل من الصالحات كثيرا، فبقدرها وأكثر منها جازه، كما وتجاوز عن سيئاته وأنت القائل (إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ.. (32)) سورة النجم، ويا من أرسلت إلينا رسولك فبشرنا برحماتك المرتجاة لعباده يوم القيامة بقوله صلواتك ورحماتك عليه (إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخَّر الله تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة)... اللهم بها ارحمه وارحمنا يوم نفد اليك..آمين. المكلوم/عبد الباسط عبد اللطيف