هجرة عصافير الخريف!! تحقيق: زينب بُدل التَّقصِّي في هجرة أطباء بلادي جعلني طوال الأيام السابقة أسيرة لمقولة (من رأى ليس كمن سمع)، فبعد أن سمعنا وسمعنا وسمعنا عن النزيف الحاد الذي ظل يعاني منه القطاع الصحي مؤخراً، جرَّاء شلالات الهجرة التي اجتاحت المجال بمختلف تخصصاته، أتاحت لي مقادير العمل إجراء تحقيق عن هجرة الكوادر الطبية، فتملَّكتني الدهشة حقيقةً؛ قبل أن أبدأ جمع المعلومات، لأنني استنجدتُ بهاتفي الجوَّال الذي تتزاحم بذاكرته أرقام أطباء كُثُر، كنتُ ألجأُ إليهم لاستشارتهم في المواضيع المتعلقة بالصحة، فكانت المفاجأة أن كل من حاولتُ الوصول إليه عبر الهاتف جاءني بدلاً عن صوته رد آلي نصَّه: (هذا المُشترك لا يمكن الوصول إليه حالياً)، وبالتقصي أعرف أن من هاتفته قد حزم حقائبه وغادر البلاد، ضمن (منظومة) هجرة الأطباء التي اجتاحت السودان مؤخراً. السطور القادمة نحكي من خلالها عن هجرة الأطباء، فهيَّا بنا إلى التفاصيل. لماذا لا يُهاجرون؟؟ البداية كانت بجولة استطلاعية على عدد من الأطباء بمختلف تخصصاتهم ومستوياتهم العملية والعلمية، ويمكن تلخيص ما خرجنا به منهم أن الهجرة في الآونة الأخيرة أصبحت الحل الأمثل لمجابهة الأوضاع داخل البلاد. تلك ناحية أما الأخرى فهي أن هذه الهجرة بدأت تنتج إفرازاتها السالبة ممثلة في شح الكوادر التي أصبحت تعاني منها المستشفيات الآن. تقول الدكتورة سارة الشريف: أنا متعاطفة جداً مع كل طبيب يحزم أمتعته قاصداً الهجرة الى الخارج لأنَّ الواقع الطبي ببلادنا في أسوأ حالاته حيث أن بيئة العمل في تردٍّ مستمر وليس هناك ما يشجع الأطباء على العمل، إضافة الى أن الطبيب السوداني مُهان داخل بلاده وليس لديه أية حقوق، وغير ذلك فإن المستشفيات ليس بها معدات أو علاج ولذلك فالطبيب لا يستطيع أن يقوم بعمله بل في بعض الأحيان لا توجد دربات في الحوادث مما يضطر الطبيب الى طلب ذلك من المريض. وفي ذات الاتجاه يمضي دكتور حسن عباس اختصاصي مختبرات طبية قائلاً: إنَّ الكثيرين يُخطئون لأنهم يناقشون النتائج، والصحيح دائماً هو مناقشة الأسباب وليس النتائج. من هنا يلزمنا أولاً الوقوف عند العوامل التي أدت الى الهجرة صحيح أنها حق مشروع لكل فرد لكن عندما تصير بهذه الصورة المكثفة فهنا يستوجب الأمر دراسة الأسباب جيداً. فمن المؤكد أن هناك عوامل طاردة لعب فيها النظام الصحي دورا كبيرا من خلال تضارب السياسات وعدم وجود استراتيجية وخطط واضحة تسهم في توجيه الأداء الصحي بشكل مقبول، أضف الى ذلك عدم وجود بيئة العمل المشجعة للأداء وبمعنى آخر يوجد عراك من غير معترك، مما أدى الى صدور قرارات تتنافى مع الواقع المعاش وهذه القرارات تركزت على الأمور الشخصية والشكلية ولم تنتبه الى حجم المشكلة وتبعاتها والآثار المترتبة على أي قرار مما أوجد الكثيرين أمام تحديات ومعوقات لا تتناسب وحجم قدراتهم العلمية والعملية وتأثيرهم على عملية التغيير المنشود ويعني كل ذلك عدم وجود الشخص المناسب في المكان المناسب. (الجفلن خلَّهن اقرع الواقفات!!) دكتور حسن عباس، نظر للقضية من زاوية أخرى عندما قال : نلاحظ أن هناك ضعف قدرات يعاني منه بعض الإداريين مقارنة مع مرؤوسيهم مما خلق نوعا من التضاد وعدم تنفيذ كثير من السياسات والممانعات التي تظهر من فترة الى أخرى مما ألقى بظلال كثيفة على الكثير منهم في ظل وجود الكثير من المعوقات الإدارية ومما أدى الى كثير من الصراعات في المؤسسات الصحية على كافة المستويات الخاصة والعامة مما أثر سلباً على حالة الكر والفر بين المرضى وذويهم بحثاً عن التدخل السريع والعاجل لإنقاذ حياتهم ولكن أنى لهم ذلك في ظل هذا الترهل والفراغ وعدم تقديم المصلحة العليا على المصلحة الشخصية التي بلا شك أثرت تأثيرا مباشرا على الاستفادة من هذه الكوادر والكفاءات التي فضلت الهجرة في أرض الله الواسعة، واختصاراً لكل هذا لا بد من هزة عنيفة وبمصداقية لتحسين الوضع الصحي في البلاد وبأن تكون الصحة ذات سيادة خدمية في المقام الأول وأيضاً تحسين أوضاع الكوادر الطبية بكافة مسمياتها وتخصصاتها وعدم التمييز بينها، ووجود هذه الهزة ضروري للتقييم والتحسين المستمر وهذا لا يتأتى من فراغ وبالتالي تتضح الرؤية تماماً في قصور الدولة فيما يعنيها من صحة المواطن وعدم وجود سياسات تسهم في معرفة الأسباب الحقيقية وراء هذا الحراك الخارجي في الكوادر الطبية وأن تعمل على جعل الصحة حقا مكفولا للجميع. وفي ختام حديثه ذكر أنه حقيقة يرى أن مايحدث يحتاج للتدخل السريع والعاجل من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه والاستفادة القصوى من الكوادر الموجودة الآن وإعطاء الثقة في توفير معينات تصب في مصلحة المواطن الذي نقول له إن ((الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى)) ولكن هل نحن مازلنا على هذا المعنى؟! واختتم حديثه موجهاً لأصحاب الأمر ((الجفلن خلهن اقرع الواقفات))..!! أرقام مُخيفة..!! 60% من الأطباء هاجروا من بلادنا خلال الفترة الماضية، بهذه العبارة المؤلمة بدأ دكتور محمد احمد عثمان، حديثه معنا مضيفاً أن الكوادر التي سافرت جميعها من أصحاب الخبرات - اختصاصين وأطباء عموميين وغيرهم من اختصاصيي المعامل والأشعة- ولكن نجد أن الأطباء هم الأكثر عدداً ورغبة في الهجرة لأن أوضاعهم أقل ما توصف بالصعبة والطاردة وغير ذلك فإن الطبيب هنا لا يأخذ حقوقه على أكمل وجه، بل في بعض الأحيان لا يأخذ جزءا منها ومثال لذلك عدم تحديد ساعات العمل لأن الطبيب يعمل بعض الأحيان بشكل متواصل مما يؤثر سلباً على أدائه في العمل لأنه كلما زادت ساعات العمل كلما قلت كفاءة الطبيب وغير ذلك فهو يعمل أكثر من وقته ولا يجد الزمن الكافي الذي يسمح له بالتطور في مجاله لأنه يكون في رحلة بحث مستميتة حتى يتمكن من زيادة دخله لمواجهة متطلبات الحياة، أضف الى ذلك أن المستشفيات غير قادرة على تقديم خدمات للمرضى لأن معينات العمل بها غير موجودة أصلاً،د/ محمد قال إن وزارة الصحة ليس لديها حق لمنع الطبيب من الهجرة لأنها في الأصل لم توفر له بيئة العمل داخل البلاد وغير ذلك أنها قد تكون عملت على تطوير أو بناء المستشفيات ولكنها لم تستطع أن توفر الكوادر اللازمة، ومن الأمثلة الغريبة التي ذكرها د/ محمد في نهاية حديثه أن في السعودية فقط ما يتحصل عليه الطبيب السوداني في شهر واحد يمكن أن يعمل من أجله عاما كاملا هنا، هذا من جهة الأطباء أما من جهة المرضى فإن المملكة تخصص للمرضى السعوديين في مستشفياتها مبلغ 300 ريال عن كل يوم يقضيه داخل المشفى. شاهدٌ من أهلها وذات النسبة التي قالها دكتور محمد احمد عثمان أكدها رئيس لجنة تدرج الاختصاصين بالمجلس الطبي السوداني د.أحمد الصافي، حيث قال إن عدد الأطباء المسجلين بالمجلس بلغ « 22» ألف طبيب وإن «60%» منهم يعملون خارج السودان. بعد ذلك ألا يحق للشعب السوداني (الفضل) أن يضع يده على قبله؟ والسؤال الذي يعقب سابقه هل تستطيع الكوادر المتبقية سد النقص والعجز في مستشفيات العاصمة والأخرى المنتشرة في طول البلاد وعرضها؟ علماً بأن المجلس الطبي أكد أن «40%» من السكان محرومون من خدمات الرعاية الصحية الأولية بينما يحصل عليها «20%» فقط. وقبل يومين فقط أكدت مديرة البرنامج القومي لمكافحة الدرن هبة كمال حمد النيل تزايد عدد الحالات للمصابين بالدرن لا سيما في ولاية الخرطوم، شاكيةً في الوقت ذاته هجرة الكوادر الطبية الى خارج البلاد وعدم توفر الكادر البديل بالصورة المطلوبة. وقبل ذلك كان رئيس اتحاد أطباء السودان بروفسور عبد العظيم كبلو قد حذَّر من الاستقطاب الحاد للأطباء السودانيين خصوصاً من قبل دول الخليج. وتوقع جفاف البلاد من الأطباء في حال استمرت هجرة الأطباء قائلاً : (إذا استمر الوضع هكذا ستجفف البلاد من الأطباء) وطالب كبلو الحكومة بتوفير عوامل استبقاء الكوادر الطبية بتوسيع فرص التوظيف والتدريب وتحسين شروط الخدمة والمخصصات. مؤكداً أن الاتحاد لا يشجع الهجرة رغم أنها قرار فردي تتحكم فيه عوامل جذب الدول الخارجية والعوامل الطاردة بالبلاد. لكن في الاتجاه المعاكس تماماً أعلن وزير الصحة بولاية الخرطوم بروفسير مأمون حميدة عن تشجيعه لهجرة الكوادر الطبية الى الخارج، مشدداً على وجود فائض عمالة من الأطباء، وقال: "ما منزعجين من الهجرة بل نشجع الخطوة". أما حُجة حميدة فهي أن المستشفيات تعاني من تكدس الأطباء العموميين. انقلاب موازين..!! ويقول كبير الجراحين بمستشفى الخرطوم دكتور محمد عبدالرازق : إنَّ مهنة الطب ولزمن طويل كانت مهنة مميزة يدخلها الأفراد برغبة كاملة وبغرض خدمة الناس وفي كل البلاد يفضل أصحاب هذه المهنة عدم الاغتناء منها، تعيش منها نعم ولكن لا يمكنك الدخول الى بوابات الثروة من خلالها، أما الآن انقلبت الموازين وأصبح الكل يعاني من ضيق العيش فلا الطبيب يستطيع تحمل النفاقات في ظل هذه الأوضاع ولا المواطن قادر على تكاليف العلاج الباهظة، إضافة الى ذلك فإن مثل ما على الدولة توفير العلاج للمواطن لا بد لها من توفير المرتبات للأطباء، فقديماً كانت هناك مساكن للأطباء حول المستشفى بل أن 75% من مساكن الحكومة كانت للأطباء ولكنها الآن انتزعت منهم لبعض منسوبي المؤتمر الوطني، وقديماً أيضاً كان كل مشفى يرعى فكرة استقرار الطبيب وأن يوفر له مسكنا بالقرب من المشفى الذي يعمل به وقدر من الماهية وأيضاً نسبة في الإدارة لتنظيم العمل الصحي مما يخلق له نوعاً من الانتماء للمؤسسة الصحية التي يعمل بها, أما الآن هناك تضاؤل في الانتماء للمؤسسة الصحية وانقطعت المواهي وانعدم الاستقرار الأسري، اضف الى ذلك أن إدارات المستشفيات والإدارات الصحية هي مستجلبة ولكل ذلك اختار الكثيرون الهجرة من أجل مستقبل أسرهم. د. محمد أشار أيضا الى أن القسم الأكبر من الهجرة هي هجرة للتخصص لأن التخصص الداخلي مكلف جداً، وتخصصات الدولة التي كانت تأتي من أجل سد النقص في التخصصات أو لأجل الصالح العام توقفت لأنها أصبحت مخصصة للمؤتمر الوطني، إضافة الى ذلك ليس هناك مؤسسات علمية للصحة ووزارة الصحة في الآونة الأخيرة أصبحت معنية بالتثقيف الصحي أكثر من العمل الصحي والعلاجي، وأخيراً أوضح أن هناك نقص مخل في الأطباء بسبب الهجرة بجانب أن المستشفيات بدأت تعاني من أعراض هذا النقص فعلياً.