قيم اجتماعيه سادت ثم بادت :- النفير في المجتمع النوبى بقلم\سعيد دمباوى تعتبر ظاهره النفير (الفزع) من الظواهر المتآصله في المجتمع النوبى منذ اقدم العصور –ولعل من اهم اسباب اصاله وتجذر هذه الظاهره (النفير) هى البيئه التى يعيش فيها المجتمع النوبى –وهى بيئه لايستطيع فيها الفرد او الاسره الواحده أن يعيش مستقلا عن الآخرين –ولابد من التعاون والتكافل والتكامل في ما بينهم – وهى البيئه الزراعيه بالوسائل التقليديه والنوبيون هم الذين صنعوا وسيله الرى الاولى في السودان حتى اواخر الخمسينيات –وهى (الساقيه) النوبيه وهى صناعه سودانيه نوبيه 100% وقد هاجر (البصير)النوبى وهو مهندس الساقيه الى جميع المناطق القريبه من النيل والجزر في بلادنا – ليصنع السواقى ويعلم الآخرين كيف تصنع؟ وكيف يكون (النفير) لصناعتها ؟ وقد وصل (البصير) النوبى حتى جزيره (توتى) التى سكانها من اهلنا (المحس)ووكانت مزارعهم تمتد من منطقه قاعه الصداقه الحاليه وحتى (برى المحس) وكذلك صنعوا وعمروا السواقى في (الحلفايه وشمبات) –وفى النيل الابيض نجد قريه (الدمبو) وجذورهم من (دمبو) الشماليه –وقاموا بتنظيف الارض من الغابات (بالنفير) وصنعوا السواقى (بالنفير) وزرعوا واكلوا مما زرعوا –وهذا شعار حققه النوبيون منذ اقدم (بالفعل) لانهم هم الذين اخترعوا وسيله الرى ولهذا نجد أن اسماء (كل) اجزاء الساقيه باللغه (النوبيه) اينما وجدت الساقيه –والذى ليس اسما نوبيا ترجم –ترجمه (حرفيه) من اللغه النوبيه الى العربيه –ويقال مثلا في اللغه النوبيه (ارقدى-وارقدنتود) ترجمت الى العربيه الى (الحلقه –وبنتها) وهى ترجمه حرفيه اذ ليس في العربيه (بنات) للحلقات مما يدل على انها صناعه نوبيه سودانيه خالصه ولم تات الى بلادنا من وادى النيل وقد وجدت ساقيه متحجره في منطقه الصبابى عمرها اربعه ألاف سنه والساقيه هذه التى كانت وسيله الرى الاولى في بلادنا حتى الخمسينيات –لايمكن أن يصنعها شخص واحد –بل ولا اسره واحده –ولا بد من استنفار جميع سكان القريه والقرى المجاوره لصناعتها –وكذلك (المركب)-وهما وسيلتان اساسيتان في حياة المجتمع النوبى –ولعل بعضنا شاهد فيلم (مراكب الشمس)للمخرج البارع الاستاذ\ سيف الدين حسن –وهو من الافلام الوثائقيه التى فارت في مهرجان الافلام الوثائقيه-ولعل ابرز ما في هذا الفيلم هو المشاهد المرتبطه بعمليه (النفير) حيث نرى النوبيون المستنفرون ينقسمون الى اقسام في النفير –منهم جماعه تقوم بتقطيع الاشجار –وجماعه تقوم بتوصيل قطع الاشجار الى مكان التصنيع عن طريق (جرها بالحبال) بطريقه جماعيه –وهناك جماعه من (ذوى الخبره) الفنيين يعينون النجار-بتشقيق سيقان الاشجار بالمناشير حسب المواصفات والمقاسات التى يحددها النجار (البصير) حتى المغتربون الذين جاءوا لقضاء اجازاتهم مع ذويهم من الافنديه وغيرهم كانوا يشاركون (لكن كانوا بيجوا متأخرين شويه)،،الخ وهكذا كان يشارك النوبيون ويتعاونون في صناعه السواقى ليسقى بها الجميع زراعتهم بالماء الذى جعل الله منه كل شيىءحى –ويصنعون المراكب بالنفير بطريقه جماعيه ليستخدمها الجميع لتكون الوسيله الاولى للنقل والتنقل للجميع –ولما كان لابد من هذه الوسائل لتكون هناك حياه لهم ولزراعتهم ولانعامهم –كان لابد لهم من الاستنفار والنفير –وهكذا تآصلت وتجذرت هذه الثقافه في المجتمع النوبى بصفه خاصه والمجتمع السودانى بصفه عامه مع وجود تفاوت في الاصاله وتجذر الظاهره ‘‘‘ ومن الاعمال التى كان يستنفر لها سكان القريه النوبيه (تظليل الغرف) فان كانت هناك غرفه قد تم بناءها ولم تظلل وبخاصه أن كانت الحاله عاجله كأن يكون لصاحب الغرفه مناسبه زواج ابن أو ابنه-فى هذه الحاله يستنفرسكان القريه ويتم التظليل عن طريق (الفزع)وفى اليوم المحدد للنفير يتجمع سكان القريه كلهم في موقع العمل حيث يتم تقسيم العمل –ويتجه الشباب الى النخيل بعد اختيارهم (للمناجل السنينه)للقيام بحش الجريد واحضاره في موقع العمل ويكون (كبار السن) في انتظارهم للقبام بعمليه تنظيف الجريد بازاله (الزعف) وهم جلوس –يعينهم (الاطفال)بوضع الجريد امامهم ونقل ماتم تنظيفه بالقرب من الغرفه وهناك جماعه من الشباب يقومون (بعجن الطين) وجماعه تجلب الماء (بالجوز) وربما تشارك النساء في احضار الماء (ان كان الامر يستدعى - كأن يكون عدد الرجال قليلا) كان هذا في زمن الآبار قبل ظهور المواسير –وهتاك جماعه تقوم بتنطيف سيقان النخيل (الامبق) بعد أن يختار لهم العم (نورى) السيقان القويه التى لاخلل فيها عن طريق (طرقها بالقدوم في مواضع مختلفه) –وجماعه يقومون (بتلوين)ماتم تنظيفه (بالجير)وهناك جماعه من الفنيين بقياده العم (نورى)ويساعده عمامنا (خليل تود- وحب الله) يقومون (برص) العيدان على حائط الغرفه وضبط (الميلان) ورحم الله عمنا (نورى)وقد كان رجلا يخلص في عمله ويتقنه وفى الصحيح ما معناه (ان الله يحب اذا عمل احدكم عملا أن يتقنه) وكان الميلان الذى يضبطه بدون ميزان (مويه)اوخيط لايبقى نقطه ماء على السقف الذى يقوم باعداده اذا هطلت الامطار‘‘ وهكذا كانوا يتعاونون-وتكون الغرفه جاهزه تماما بعد صلاه العصر –وفى اليوم التالى يكون (نفير)نساء القريه لبياض (تلييس)الغرفه (بالايدى)وذلك بخلط (الكرب بالرمله) والكرب (بضم الكاف) تراب لزج يخلط مع الرمله للبناء واللياس بنسب متفاوته –وتعجن الخلطه في (طشاته نحاس) كبيره كانوا يحضرونه من مصر –وفى اليوم الثالث تتجمع النساء ايضا ويتم (تجييرها)بالجير المحلى –وبهذا تكون الغرفه جاهزه-للعرسان او لغيرهم وهكذا نجد أن هذه الظاهره (النفير)كانت متآصله في المجتمع النوبى والسودانى –وان كان مما يؤسف له انها اصبحت (نادره)جدا في زماننا هذا –حيث صار (كل شيىء بالقروش) على الرغم من انها من تراثنا الجميل وقيمنا الاصيله ومما كان يجب المحافظه عليها –والتعاون والتكافل على كل المستويات –مما حث عليه ديننا –والنوبيون هم اول من طبقوا هذه القيم في مجتمعهم منذ اقدم العصور –انها قيم اجتماعيه جميله سادت ثم بادت بعد أن حدثت (الجفوه)بين الناس –ونسأل الله أن نعود اليها –وهى قيم حث عليها ديننا دين الفطره الموافقه لفطره الانسان وعباده نتقرب بها الى الله ،، وهناك مناسبات وحالات تستدعى النفير في المجتمع النوبى –كأن يزرع احد المزارعين من (كبار السن) قمحا –ولايكون له ابناء يعينوه على الحصاد –او يكونوا تركوه واغتربوا لظروف الاسره –او كانت له ظروف صحيه تستدعى مساعدته –ففى مثل هذه الحالات يتم استنفار سكان القرى لحصاد قمحه وجمعه له عن طريق (الفزع) او يكون المزارع (صغير السن) يصعب عليه حصاد قمحه بمفرده-وقد قام كاتب السطور بزراعه القمح بعد المرحله الابتدائيه مباشره-ولما كنت صغيرا في السن –وكان والدنا رحمه الله يعمل في مهنه (الجزاره)ولا فراغ له لمساعدتى –فقد تم حصاد قمحى عن طريق (النفير)فى موسمين متتاليين –وبعدهما صرت اعتمد على نفسى في حصاد قمحى –واشارك مشاركه فاعله في نفير الاخرين في قريتنا والقرى المجاوره –جنبا الى جنب مع بشير حسين وعبد الله احمد نورى – لامانع عندى من استنفارجميع النوبيين من حلفا وحتى دنقلا لحصاد قمح الاستاذ ايوب اسماعيل ايوب في هذا العام –على أن لايكون ما يطالب به استاذنا سمير بوكاب موجودا بعد نهايه الفزع ومن آداب النفير –ان يتم استنفار نساء القريه من قريبات صاحب النفير بصفه خاصه- لاعداد الطعام والشاى ومن الآداب (ترديد المدائح النبويه)بالعربى والرطانه – (صلوا عليه-نبى صلواعليه-النور يامحمد –نبى صلوا عليه) (غالى ملن غالى –وونبى عبدالله تود)ويردد الجميع مع المادح بصوت جماعى –يسمعه كل سكان القريه –حتى النساء اللاتى يعملن الطعام –ويبعث فيهم جميعا نشاطا وحماسا –وهذا المديح وبتلك الطريقه الجماعيه –هو نوع من (الاعلام) للسامعين للمشاركه وعدم الخزلان ومن يمدحونه هو الذى حث وامر بالتعاون والتكافل –وكان من اشهر من يمدحون في النفير –الحاج (خليل ودحاج عثمان)رحمه الله –وكان ابرز من يقومون بقياده جميع انواع النفير (بشير حسين ساتى) رحمه الله –والنفير الذى لايكون فيه بشير حسين –كان كالطعام الذى لاملح فيه وقد كان رجلا ذو مروءه (مرواب) ومازال الذين عاصروه يتذكرونه أن كان هناك نفير في قريتنا (عبدالسلام –مار) والقرى المجاوره كانت هناك مناسبه يسمونها (بوش) وهى لاعلاقه لها –ب (بوش بتاع امريكا –ولا بالبوش بتاع مويه الفول) وهى مناسبه تجمع سكان القريه للمشاركه في (ختان ابناء )احد ابناء القريه-وفى نهايه اليوم –يتم اعداد كشف لتسجيل مشاركات الحضور الماديه لصاحب المناسبه وهذا ايضا يعتبر نوعا من انواع (النفير) لما فيه من تعاون وتكافل بين سكان القريه ومن قصص (النفير) المرتبطه بالبوش –ان احد سكان احدى القرى –استنفر سكان قريه اخرى –ومما يؤسف له –صادف اليوم المحدد للنفير –يوم (بوش) احد شيوخ العرب المشهورين ( ( نمر)) من منطقه –تسمى (شبعانه) وهى قريه الشيخ محمد احمد حسن –وهى مناسبه ليست عاديه يمكن (تفويتها) لمكانه صاحب المناسبه في المجتمع –مهما كانت الظروف ذهب المستنفرون الى منزل المستنفر في قريته للمبيت عنده لبدء العمل في الصباح الباكر –وقام صاحب النفير على خدمتهم حتى تناولوا العشاء –واخذ كل واحد منهم (عنقريبه) وذهب صاحب النفير للنوم للقيام مبكرا –وباتفاق مسبق لم يشاركهم فيه صاحب النفير – عندما (طلع القمر) ايقظ المستنفرون بعضهم البعض واخذوا (مناجلهم) يرافقهم احد افراد الاسره ممن يعرفون (قمح المستنفر) وحصدوا القمح ( (وربطوه ))ووضعوه في ( (القيساب)) ليلا –ثم رجعوا الى البيت دون أن يعلم صاحب البيت الذى كان متعبا لقيامه على خدمه الضيوف وفى الصباح –جاء صاحب النفير باشاى – وبعد أن شربوا الشاى –توجه كل واحد منهم الى حمارته للرجوع وهم يودعونه (مع السلامه-ياعم فلان)ويتعجب الرجل ويسأل (ماشين وين) ويقولون له (نحن متقنا قمحك بالليل) ويشرحون له الاسباب –ويذهب الى حقله ويجد قمحه جاهزا (للنوريق)-فعلوا ذلك للتوفيق بين (بوش)شيخ العرب (نمر)وبين النفير وكان حدثا يذكره الجميع كمثا ل للتعاون