يكفى لإبراز أهمية "الأمن المائي السوداني" أن نوضح أن أهمية السودان على خارطة العالم تنبع من قدرته على توفير "الأمن الغذائي" لنفسه وللعديد من بلدان العالم، وأنه لا يمكن توفير ذلك "الأمن الغذائي" إلا بتوفير موارد مائية كافية من خارج حدود السودان. ولا شك أن تلك هي النظرة "الإستراتيجية الكلية" التى ينبغي أن ينطلق منها كل نقاش أو حوار أو خطة عمل تتعلق بالموارد المائية فى السودان. ولذلك رأيت أن يكون إحتفالي على المستوى الشخصي باليوم العالمي للمياه هو اقتراح خارطة طريق للأمن المائي السوداني. ولقد فطن المستعمر منذ قدومه الأخير الى السودان فى نهايات القرن التاسع الى أهمية الأمن المائي السوداني حتى قبل إنشاء مشاريع الري الكبرى فى السودان، ولذلك أبرم فى العام 1902 اتفاقية مع الإمبراطور الإثيوبي منليك تلزم اثيوبيا بعدم إعاقة انسياب المياه إلا بموافقة حكومة السودان. ولم يكن الالتزام الاثيوبي دون مقابل، بل دفع له المستعمر فى سبيله الكثير من المزايا السياسية والاقتصادية. كما أبرم المستعمر على ذات المنوال العديد من الاتفاقيات المماثلة مع دول حوض النيل الأخرى ، على النحو الذى فصلناه فى كتابنا الذى نشرته مجلة وزارة العدل فى عدد خاص بتاريخ سبتمبر 2007 باللغة الإنجليزية تحت عنوان "The Success of the Impossible Negotiations about the Waters of the Nile 1891 – 2007" وبالإضافه الى ذلك أوضح المستعمر أن إبرام اتفاق شامل بين كافة دول حوض النيل بما يحقق "الأمن المائي" لكل منها يتطلب فى المقام الأول إبرام اتفاق بين السودان ومصر باعتبارهما أكثر دول حوض النيل استخداماً لمياه نهر النيل، ولذلك فإن اتفاقية 1959 بين السودان ومصر هي فى حقيقة الأمر اللبنة الأولى لإبرام اتفاق شامل بين كافة دول حوض النيل. وعندما بدأت الجولة الأخيرة لإبرام اتفاق شامل بين دول حوض النيل عام 1995، فشلت دول حوض النيل، بخلاف السودان ومصر، فى فهم أن الاتفاقيات السابقة التى أبرمت بينها هي الأساس التاريخي والقانوني الذى يقوم عليه "الأمن المائي" لكل دول حوض النيل وليس للسودان ومصر وحدهما. وهكذا ظلت تلك الدول ترفض الاعتراف بتلك الاتفاقيات لأكثر من عشر سنوات من 1995 وحتى 2006. ولتأكيد فهمنا بأن الأمن المائي يرتبط بالاتفاقيات السابقة نوضح أنه وبتاريخ 13 مارس 2006 ، على وجه التحديد، وجد الاجتماع فوق العادة لوزراء المياه بدول حوض النيل نفسه مضطراً لمناقشة الاتفاقيات السابقة تحت مفهوم "الأمن المائي – Water Security "، وكانت تلك هي المرة الأولى التى يظهر فيها مفهوم "الأمن المائي" بين دول حوض النيل مرادفاً للاتفاقيات السابقة، ولذلك فإن أي جهة لا تعترف بالاتفاقيات السابقة يلزمها إعادة نظر فى عدم اعترافها. ولقد وثقنا لتلك الواقعة فى صفحة 36 من الكتاب الآخر الذى نشرناه بتاريخ فبراير 2010 باللغة الإنجليزية بعنوان: “Minuted Facts about the Negotiations of the Cooperative Framework Agreement (CFA) Among the Nile Basin Countries: February 1995 – 15 February 2010" وهكذا وجدت كل دول حوض النيل التى كانت تعارض الاتفاقيات السابقة أنها مضطرة لقبول مفهوم "الأمن المائي" المرادف لتلك الاتفاقيات والذى يزيل عنها الحرج السياسي والذى يتمثل فى الاعتراف الصريح بتلك الاتفاقيات ، خاصة وأن مفهوم الأمن المائي أصبح مفهوماً يحظى بتوافق عالمي ولا يمكن لأي دولة مشاطئة أن ترفضه. ومنذ ذلك التاريخ أصبحت الاتفاقيات السابقة تناقش تحت ذلك المفهوم والذى ورد صراحة ودون تحفظ من أي دولة فى الفقرة 15 من المادة 3 من اتفاقية عنتبي، وأصبح الخلاف حوله ينحصر فقط فى تفاصيله التى وردت فى المادة 14(b) من اتفاقية عنتبي. وقبل حسم الاختلاف حول المادة 14(b) التى تعنى بتفاصيل "الأمن المائي" لكل دول حوض النيل، رأت ست من دول حوض النيل وهى إثيوبيا ويوغندا وكينيا وبورندي ورواندا وتنزانيا تأمين أمنها المائي وتجاهل الأمن المائي للسودان ومصر وذلك بالتوقيع على اتفاقية عنتبي تمهيداً لإدخالها حيز النفاذ بعد تصديق تلك الدول عليها. ولكن لم تتمكن تلك الدول من التصديق على اتفاقية عنتبي بسبب الاعتراض الذى تقدم به السودان فى اجتماع وزراء دول حوض النيل الذى عقد خلال 26-27 يونيو 2010 بأديس أبابا طالباً عقد اجتماع طارىء لوزراء دول حوض النيل للنظر فى تأثير ذلك التوقيع من قبل بعض دول حوض النيل على مبادرة دول حوض النيل (NBI) التى تشترك فيها كل دول حوض النيل. ولقد وافق الاجتماع الوزاري بالإجماع على اقتراح السودان، ولكن للأسف الشديد لم يستفد السودان من ذلك الاعتراض على الرغم من أن وزراء دول حوض النيل قد جددوا اعترافهم بذلك الاعتراض فى اجتماعهم الذى عقد مؤخراً برواندي فى يوليو 2012 . وبناء على ما تقدم فإننا نرى أن خارطة طريق الأمن المائي السوداني والنظرة الإستراتيجية الكلية تتكون من المحورين التاليين: المحور الأول: أنه لا اعتراض على استفادة اثيوبيا من الموارد المائية لنهر النيل، بشرط أن تكون تلك الاستفادة دون تسبيب ضرر ولتحقيق الأمن المائي السوداني والأثيوبي المصري. وبصفة خاصة فإن سد الألفية بإطاره التفاوضي الحالي عبر لجنة فنية ثلاثية من السودان واثيوبيا ومصر هو أكبر مهددات الأمن المائي السوداني، لأن اللجنة الثلاثية ليس لها أي صلاحيات، وإنما هي لجنة صورية لاستيفاء متطلبات القانون الدولي لصالح إثيوبيا. وينبغي أن يكون العمل فى سد الألفية على أساس اتفاق ثلاثي بين السودان واثيوبيا ومصر لتحديد الإطار القانوني والمؤسسي للسد على ضوء اتفاقية 1902. وفى ذلك الصدد لابد من استيعاب أنه ليس من مصلحة السودان مناقشة سد الألفية خارج إطار مفهوم "الأمن المائي" والذى هو المرادف التفاوضي للاتفاقيات السابقة حسبما أوضحنا أعلاه . وكما هو معلوم فإن "الأمن المائي" ليس مفهوماً هندسياً تناقشه لجنة فنية، بل هو مفهوم يشمل الأطر القانونية والمؤسسية التى تشمل الملكية المشتركة والتشغيل المشترك للسد، وهي أمور لا تختص اللجنة الثلاثية بمناقشتها. وللذين يتعاملون بحسن نية مع الموقف الأثيوبي نوضح لهم أن الجمعية العامة للأمم المتحدة قد اعتمدت بتاريخ 28 يوليو 2010 قراراً حول حق الإنسان فى الماء بأغلبية 122 صوتاً ودون معارضة من أي دولة، إلا أن اثيوبيا كانت من بين الدول التى امتنعت عن التصويت. المحور الثاني: بلورة اعتراض السودان على دخول اتفاقية عنتبي الى حيز النفاذ للوصول الى رؤية مشتركة لكل دول حوض النيل، إما من خلال الوصول الى توافق حول نقاط الخلاف فى اتفاقية عنتبي، أو الفصل بين تلك الاتفاقية وبين مبادرة دول حوض النيل ومواصلة التعاون بين دول حوض النيل على أساس المبادرة. ومن أعجب ما سمعنا فى ذلك الجانب هو مناداة بعض الإخوة الخبراء بضرورة أن يوقع السودان على اتفاقية عنتبي بصورتها الحالية، وغاب عنهم تهديد تلك الاتفاقية المباشر للأمن المائي السوداني. والأعجب من ذلك أن رؤيتهم تلك تتفق مع ما ذهب إليه وزير الموارد المائية بدولة جهورية جنوب السودان مؤخراً بأنهم يسعون الى التوقيع على اتفاقية عنتبي، وأنهم لا يعترفون باتفاقية 1959 ، وهو موقف جديد خلاف موقفهم الذى عبروا عنه فى رواندا فى الاجتماع الوزاري لدول حوض النيل فى يوليو 2012 عندما قدموا طلب الانضمام لمبادرة دول حوض النيل. ويبدو أن تقاعس السودان عن مواصلة مناهضته لاتفاقية عنتبي قد شجعهم على ذلك الموقف الجديد. وفى الختام فإننا قد اقترحنا فى هذا المقال خارطة طريق للأمن المائي السوداني، ليس لمصلحة أحد وليس انتقاداً لأحد، ولكن تبرئة لذمتنا أمام التاريخ الذى لن يرحم كل من يفرط فى الأمن المائي السوداني، والذى إذا فقدناه قد نفقده الى الأبد. * مدير مركز الخرطوم الدولي لحقوق الإنسان (KICHR)