محمد حسن شاب سوداني في مقتبل العمر لم يتجاوز ال25 ربيعاً عاش وسط أسرته مستور الحال، عرفه أهل الحي بحسن السيرة ونقاء السريرة مهذباً مؤدباً مواصلاً لرحمه وأهله في السراء والضراء . بعد أن ضاقت (بمحمد) الحياة وتبخرت آماله في الحصول على (وظيفة) كحال عدد من الشباب في ربوع بلادي، ذهب (محمد) إلى أحد أماكن تنقيب الذهب بالولاية الشماليّة وأحلامه تسبقه إلى هناك، ممنياً نفسه بالحصول على ما سينعم به وأسرته ويغيّر وجه حياته الكادحة إلى رخاء . لم يكن الطريق ممهداً لمحمد بعد رحلة شاقة ومعاناة ووعثاء في السفر وكآبة في المنظر وصل إلى موقع التنقيب ليصارع مع أقرانه في بيئة قاسية تحتاج لزاد كاف من الصبر والعزيمة وتحمل المشاق، ترك محمد حضن أسرته الدافيء، ليغامر وسط الصخور الصلبة، وأشعة الشمس الحارقة، والعواصف العنيفة التي تضرس الفم وتعمي العين، كانت عزيمة محمد تكافح و تقاوم كل هذه (الصعوبات) من أجل لقمة العيش الكريمة (الحلال) المضمّخة بعرق الجبين. كلما اشتدّ على (محمد) التعب وتصبب العرق مسح بيديه (النحيلتين) جبينه صابراً محتسباً مواصلاً في هذا الطريق الشاق المٌكره عليه ! بعد أيام من وصوله يحظى (محمد) بمهنة (بائع) بإحدى محلات الذهب بأماكن التنقيب، (وعصفور في اليد خير من ألف على الشجرة)، ولكن الفرحة لم تكتمل (لمحمد)، فقد كان القدر يخبيء له محطة قاسية أخرى في حياته ورحلة معاناة مؤلمة مع (المرض) الذي تسبب فيه عمله (باستنشاقه لأبخرة الزئبق) الذي يستخدم لاستخراج الذهب الخالص من الخام وللأسف فإن هذه الطريقة البدائيّة وتسمى (طريقة الفقراء) وقع ضحيتها محمد وعدد كبير من رفاقه في ظل غياب الرقابة والتوعية الصحيّة وعدم توفر لوازم الحماية من هذه السموم بأماكن التنقيب، وقد راح ضحية ذلك عدد من سواعد السودان الشابة الباحثين عن لقمة العيش ! والزئبق مادة عالية السمية تهاجم الجهاز العصبي المركزي وهي ضارة بشكل خاص على الأطفال. ومعدلات التعرض الكثيف لهذه المادة يمكن أن يؤثر على نمو العقل والكليتين والجهاز الهضمي، وقد يؤدى إلى تأخر فى النمو البدني. ويتعرض مثل هؤلاء الشباب الذين يستخدمون الأساليب الحرفية التقليدية للزئبق عندما يخلطون الزئبق بخام الذهب بأيديهم العارية وأنوفهم الكاشفة، والأسوأ عندما يحرقون الخليط لانتزاع الذهب منه، إذ يتم وقتها استنشاق بخار الزئبق السام ليتسرب إلى اجسادهم (المرهقة). وطبقا لمنظمة العمل الدولية يعتبر العمل باستخراج المعادن من أخطر المهن فى العالم ، ولا يقتصر التصدي لقضية الزئبق بصفتها مسألة بيئية (فقط) بل تعتبر إحدى قضايا (الحق) فى الصحة. رقد (محمد) طريح العناية المكثفة وهو (يتنفس إصطناعياً) لمدة (14) يوماً بإحدى مستشفيات الخرطوم (الخاصة) التي امتصت كل شقائه وشقاء أهله من مال لينتقل الى محطة أخرى من المعاناة والإهمال، وذلك بإصابته بإلتهاب رئوي حاد (غير تقليدي) أدى إلى تدمير الرئة بسبب (الزئبق) المستخدم (ولازال) يستخدم بمواقع التنقيب في ظل غياب تام من السلطات في توفير الحماية اللازمة لهؤلاء العاملين الذين يرفدون الاقتصاد القومي ويغذون الخزينة العامة بمليارات الدولارات ! ولكم أن (تتخيلوا) المشهد الصحي بموقع التنقيب الذي ذهب إليه (محمد) ! شاب (أجنبي) من دولة جارة (شمالنا) يصف نفسه بأنه (طبيب) يحمل بشنطته أقراص من الحبوب وزجاجات من الأدوية المخزنة تحت أشعة الشمس، يكشف ويصف الدواء بحسب ماهو متوفر (بشنطته) وهمه كله (التجارة) في صحة هذه الأجساد، مستغلاً الظرف والوضع والمكان، فيسجل (بروشتة) العلاج، (3 حبات بعد كل وجبة من الشيّه الضأن أو الكبدة والكباب مع العدس والباذنجان) حسب ماهو (مطبوخ) بمطعم (شقيقه) الأجنبي المتاجر هو الآخر في (طعام) المنقبين !!! وبذا يستنزف هذا الطبيب (المزعوم) أموال المنقبين الذين لا خيار لهم في تلك (الصقيعة) غير أن يذهبوا إليه طالبين العلاج من دواء (شنطته) وأكل (مطبخه) ! وفي ظل هذه (العشوائية والإهمال)، فاضت روح (محمد) إلى الله ودٌفن حلمه معه وهو في ربيع شبابه الغض، وليس بغالِ على الله، ذلكم الشاب الخلوق الحالم بمستقبل مشرق وحياة مستورة ولقمة عيش كريمة له ولأسرته، ذهب ولسانه يشكو إلى الله (لمَ لم تسوّا لنا الطريق) !!! رحم الله (محمد حسن) وأسكنه فسيح جناته وجعله من أصحاب اليمين، ونسأل الله لأسرته حسن العزاء والصبر الجميل .