هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته لا شك أنَّ نجاح مُختلف السياسات والإجراءات الاقتصادية التي تتبناها حكومة ما يتأثر إلى حد كبير بمستوى الثقة السياسية بين المواطنين وأفراد النخبة الوزارية ممثلين على وجه الخصوص في وزراء المجموعات الاقتصاديَّة. وتقع مسؤولية تعزيز الثقة على عاتق الحكومة التي يتوجب عليها التعامل مع المواطن بقدر عالٍ من الشفافية والمصداقية، وأن تحرص على حرية تداول وإتاحة المعلومات الإيجابية والسلبية عن الأوضاع الاقتصادية. و كما أنَّ رصيد الثقة المتوافر بين المواطن والحكومة قد يساهم في اجتياز المراحل الصعبة والأزمات التي يمُر بها الاقتصاد، فإنَّ تآكل تلك الثقة بينهما يؤدي إلى خلق فجوة كبيرة وجدار من المخاوف والشكوك حول جدوى وأهداف السياسات الاقتصادية الحكومية. وقد وقعت الحكومة ممثلة في وزارة المالية، وبعض وزارات القطاع الاقتصادي كثيراً في فخ تضليل الرأي العام والمواطنين حول تأثير بعض القضايا السياسية والأزمات الاقتصادية على أوضاع الاقتصاد السوداني، وكان من أوضح أمثلة ذلك التضليل ما صدر عن تلك الوزارات بخصوص الأزمة المالية العالمية في 2008، و كذلك أثر انفصال الجنوب في 2011 على الاقتصاد السوداني. في أعقاب ظهور الأزمة المالية العالميَّة نفت الحكومة أن تكون لها آثار سلبية على الاقتصاد السوداني، وقلل وزير المالية من انعكاساتها على الاقتصاد المحلي، وقال ( إنَّ المقاطعة الأمريكية الاقتصادية للسودان شكلت حماية له بسبب عدم ارتباط الاقتصاد السوداني والتجارة مع الدول الغربية أوالاقتصاد الأمريكي). وقال الناطق الرسمى باسم بنك السودان أزهري الطيب إنَّ مؤشرات الأزمة (تظهر بوضوح عدم الارتباط الوثيق للاقتصاد السوداني بالاقتصاد الأمريكي ومؤسساته المالية، إضافة إلى أنَّ تحول السودان إلى عملات أخرى خلاف الدولار يقلل كثيراً من تأثير هذه الأزمة على الاقتصاد الوطني). وقال عوض الكريم بله الطيب وكيل وزارة الاستثمار حينها إنَّ ( الأزمة المالية التي اجتاحت العالم لن تؤثرعلى السودان مؤكداً أنَّ حركة الاستثمارات في السودان في حالة ازدياد مستمر). انتهى وكان من المعلوم بالضرورة لكل مطلع على قضايا الاقتصاد أنَّ تصريحات هؤلاء المسؤولين الحكوميين لم تأت بغرض عكس حقيقة الأوضاع الاقتصادية وما يمكن أن تؤول إليه، وإنما كانت بسبب دوافع سياسية. ففي ظل تشابك الاقتصاد الدولي لا يمكن استثناء دولة من التأثر بالأزمات المالية العالمية، وهو الأمر الذي وقع بالفعل حيث أدَّى تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي إلى انخفاض أسعار البترول بسبب التراجع في استهلاكه، و قد تضرَّر السودان كثيراً من تلك العملية حيث إنَّ مساهمة البترول في إيرادات الميزانية كانت قد بلغت 45% . كما ساهم كذلك في موارد صادرات البلاد بحوالي 95%. وكانت المحصلة النهائية لآثار الأزمة المالية العالمية على السودان هي تراجع العائدات المالية وتدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة بحوالي 5 مليارات دولار. تكرر ذات الشيء عند انفصال الجنوب، حيث قال وزير المالية علي محمود في مؤتمر صحفي شهير إنَّ خروج البترول من الاقتصاد السوداني لن يؤثر عليه كثيراً، وأنَّ وزارته قد تحسبت لذلك منذ وقت كافٍ، وطمأن الشعب السوداني أنَّ موارد الذهب وتدفقات الاستثمار ستسدُّ الفجوة التي خلفها خروج البترول. ومرة أخرى كان معلوماً لكل عارف بأبجديَّات الاقتصاد أنَّ تصريحات وزير المالية لا تسندها أية وقائع على الأرض، وإنما هي رسالة سياسية لا تخلو من الغرض، حيث إنَّ انفصال الجنوب أدَّى لفقدان 75% من موارد الحساب الخارجي، و45% من موارد الميزانيَّة وهو أمرٌ لا يمكن تعويضه بأحلام تدفق الاستثمارات واستخراج الذهب. كانت النتيجة المباشرة لخروج بترول الجنوب هي إزدياد عجز الميزانية، وارتفاع معدلات التضخم لأكثر من 45% ( تضخم منفلت)، و التدهور الكبير في سعر الصرف، ونفاد احتياطيات النقد الأجنبي، كما أنَّ العجز في الميزان الخارجي وصل إلى 6 مليارات دولار، وهو أكبر عجز في تاريخ السودان. وعندما سُئل وزير المالية عن دوافع تصريحاته أجاب قائلاً: ( ليس لدينا خيار آخر غير ما قلناه للناس فكان واجبنا أن نبث الطمأنينة في نفوس الشعب السوداني وليس تخويفه )، وأضاف : ( في عالم السياسة ليس كل ما يُعرف يُقال، مثلاً إذا كان الوضع المالي في المالية والبنك المركزي خطراً لا يمكن أن نخرج إلى الجمهور لإعطائهم تفاصيل التفاصيل ). انتهى لا أعتقد أنَّ وزير المالية يُدرك خطورة حديثه أعلاه، فهو إنما يعترف صراحة بأنَّ الحكومة تخفي الحقائق عن الشعب، وهو حديث يؤدي في الغالب للإطاحة بحكومات بأكملها في البلاد التي تحكم بالنظم الديمقراطيَّة لأنه ببساطة شديدة يُضلل الشعب بإخفاء حقائق يمكن أن تؤدي لانهيار الاقتصاد، وهو يخلط بين ممارسة السياسة في إطارها العام، وبين مسؤولية رجال الدولة في الحكم والذين يتوجب عليهم مصارحة الشعب بالحقيقة المجرَّدة حول أوضاع الاقتصاد. وإذا كان هذا هو ديدن الحكومة في التعامل مع الشعب فكيف يثق الناس فيها ويتأكدون أنها لا تخدعهم في كل مرَّة تتحدث فيها عن الإصلاح الاقتصادي؟ و ما هو موقف البرلمان من مثل هذه التصريحات الخطيرة ؟ النهج الذي اتبعتهُ الحكومة في الترويج للإجراءات الاقتصادية الأخيرة لم يختلف عن نهجها المعروف الذي عبَّر عنه وزير المالية والذي يتسِّم بالتمويه وعدم الشفافية و لا يكشف الحقائق كاملة أمام المواطنين، وقد ظهر ذلك جلياً من خلال تركيز الخطاب الحكومي على قضيَّة رفع الدعم عن المحروقات فقط والصمت المتعمَّد عن الجانب الأخطر في هذه الإجراءات وهو زيادة رسوم الجمارك والضرائب. فقد شملت الإجراءات زيادة سعر الدولار الجمركي الذي تُحسب على أساسه الواردات بنسبة الثلث ( من 4.4 إلى 5.7)، وكذلك ارتفعت ضريبة القيمة المضافة ب 13%، ورسوم التنمية بذات النسبة، ورسوم الإنتاج ب 10%, وازدادت التعريفة الجمركيَّة على الإسبيرات بنسبة 25%، و15% للسيارات، و20 % لمواد البناء بجانب العديد من الزيادات الأخرى، وهو الأمر الذي سيرفع معدل الأسعار بنسبة تصل 70 %. غير أنَّ الأمر الأخطر الذي انتهجته الحكومة يتمثل في الإيحاء بأنَّ الإجراءات الأخيرة ستحلُّ أزمة الاقتصاد السوداني، وأنَّ على المواطنين الصبر وتحمُّل آثارها المؤلمة في المدى القريب حتى يستعيد الاقتصاد عافيته. ما لم تقله الحكومة هو أنَّ هذه الإجراءات لا تمسُّ جوهر الأزمة الاقتصادية، وإنما هي – برغم قسوتها – لا تتعدى كونها مُسكّنٌ وقتي يوفر للحكومة حوالى 1.2$ مليار دولار، وهو ما يساوي حوالى 20% من إنفاقها. لا شك أنّ ذلك المبلغ سيُساهم في سد عجز الميزانيَّة، ولكنهُ سيؤدي بالضرورة لارتفاع مُعدلات التضخم بصورة كبيرة، ولن تكون له أية مساهمة حقيقية في علاج أكبر أزمتين تواجهان الاقتصاد السوداني وهما أزمة الموارد المالية التي نتجت عن خروج موارد البترول من الاقتصاد بعد انفصال الجنوب، وأزمة تراجع نمو القطاعات الإنتاجية ( الزراعة والصناعة).حيث تقف مشكلة ديون السودان الخارجية ( تبلغ حوالى 45 مليار دولار، ثلاثة أرباعها تخصُّ دول نادي باريس) والحصار الاقتصادي الذي تفرضهُ أمريكا حائلاً دون الانفتاح الخارجي و الاستفادة من القروض الخارجية المُيسرة لمواجهة أزمة الموارد التي خلفها خروج البترول. ما لم تقلهُ الحكومة أيضاً هو أنها طبّقت الإجراءات الأخيرة انصياعاً لروشتة الإصلاح التي يُطالب بها صندوق النقد الدولي طمعاً منها في أن يتم إعفاء ديون السودان الخارجيَّة و ما يرتبط بذلك من انفتاح يسمح بالاستفادة من الأموال والقروض الخارجية المُيسرة، ولذلك هرع وزير المالية والوفد المرافق له عقب تطبيق إجراءات رفع الدعم عن المحروقات مباشرة لواشنطون لحضور الاجتماع السابع للجنة العمل الفنية الخاصة بديون السودان الخارجية والذي عقد على هامش الاجتماعات السنوية لصندوق النقد والبنك الدولي. ولكن الأمر المؤسف هو أنَّ الحكومة تُصرُّ على مطاردة سراب لن يتحقق، وهو ما أشار إليه بوضوح في إبريل الماضي رئيس بعثة صندوق النقد الدولي للسودان إدوارد جميل الذي قال إنه (سيكون من شبه المستحيل بالنسبة للسودان إعفاء ديونه حتى إذا أوفى بكافة المتطلبات الفنية والاقتصادية، والسبب في ذلك هو أنَّ الأمر مرتبط بقضايا سياسية تتطلبُ جهوداً في العلاقات العامة مع الدول الأعضاء في نادي باريس). وأشار كذلك إلى أنَّ (أية صفقة لإعفاء ديون السودان تتطلب الموافقة بالإجماع من قبل ال 55 بلداً الأعضاء في نادي باريس وهو أمر غير وارد الحدوث). انتهى وحتى إذا نجح السُّودان في إقناع 54 دولة من دول نادي باريس – وهو أمرٌ يُقارب المستحيل - فإنَّ وجود الولاياتالمتحدة ضمن تلك الدول سيحول دون إعفاء تلك الديون وهو أمرٌ مرتبطٌ بعلاقتها مع السودان، حيث إنَّ هناك قراراً صادراً من الكونغرس بمنع ممثلي أمريكا لدى المؤسسات المالية الدولية من التصويت لصالح أية دولة مدرجة في قائمة الدول الراعية للإرهاب، وهي العقبة الكؤود التي سيظلُّ يصطدمُ بها السودان في محاولاته المتكررة لإعادة جدولة الديون أو إعفائها في المؤسسات التي تتمتع فيها أمريكا بأصوات راجحة أو بحق النقض، أو يتطلب اتخاذ القرار فيها إجماعاً مثل نادي باريس. ويعلمُ كل من لديه إلمامٌ بسيط بآليات اتخاذ القرار في الولاياتالمتحدةالأمريكية أنَّ قرارات الكونغرس – بعكس قرارات الخارجية التي يتم تجديدها سنوياً – لا تستطيع الحكومة الأمريكية أن تفعل شيئاً تجاهها، و لا تتمُّ مراجعتها إلا بقرار صادر من الكونغرس نفسه. وخلاصة هذا القول أنَّ تطبيع العلاقة مع أمريكا هو مفتاح إعادة جدولة أو إعفاء الديون، وهو قرار سياسي وليس اقتصادياً، وما عدا ذلك مما تقوم به الحكومة من تكوين لجان و إرسال وفود وعقد اجتماعات لا يمثل إلا تضييعاً للوقت والجهود والأموال وتضليلاًً للرأي العام. أمَّا أزمة نمو قطاعات الإنتاج الزراعية والصناعية فقد خلقتها السياسات الحكوميَّة الخاطئة خلال حقبة النفط، حيث تمَّ توجيه أموال البترول للميزانية ( شكلت عائدات النفط 45 % من موارد الميزانيَّة) وللقطاعات غير المنتجة (الخدمات والعقارات)، وتم إهمال قطاعي الزراعة والصناعة التحويلية إهمالاً شديداً. لم تتجاوز صادرات الصناعة خلال الحقبة النفطيَّة 1.7% من الناتج المحلي الإجمالي، و قد ساهمت ب 12.8% فقط من جملة الصادرات (87% من تلك النسبة اقتصرت على صناعتين فقط هما السكر 46%, وتكرير النفط 41%). أمَّا الزراعة فقد كانت تساهم ب 49.8% من الناتج المحلي الإجمالي قبل ظهور البترول وتراجعت لتصبح 31.5% في 2011. وكانت قد حققت معدل نمو سنوي في حدود 10% في العقد الذي سبق ظهور البترول، وقد تراجع ذلك المعدَّل إلى حوالي 3% في خلال حقبة النفط. ولم تنجح استراتيجية النهضة الزراعيَّة التي تبنتها الحكومة في زيادة صادرات الزراعة أو تحقيق الاكتفاء الذاتي من الحبوب، حيث عانت الزراعة من شح التمويل، وشكا وزير الزراعة في مطلع هذا العام من أنَّ إجمالي الأموال التي وفرتها البنوك للتمويل الزراعي لم تتعد 2.5 مليار جنيه، وهو ما يمثل 2% فقط من إجمالي الأموال التي قدمتها البنوك لتمويل الأنشطة الاقتصادية المختلفة. أدَّى هذا الفشل الذريع في توظيف أموال النفط، وإهمال الزراعة إلى أن يستمر السودان الذي كان موعوداً في يوم من الأيام بأن يُصبح سلة غذاء العالم في استيراد 2 مليون طن من القمح سنوياً بقيمة 900 مليون دولار. خلاصة القول – ودون الخوض في تفاصيل أخرى كثيرة – أنهُ إذا لم ينكسر طوق العزلة والحصار عن الاقتصاد السوداني وهو شأنٌ مرتبط بالسياسة أكثر من ارتباطه بالاقتصاد، ولم يتحقق نجاح كبير في تطوير القطاعات الإنتاجيَّة (الزراعة والصناعة) وهو أمرٌ غير وارد في المدى القصير والمتوسط بسبب مشاكل هيكلية مرتبطة بالقطاعين إضافة لتعقيدات كثيرة مُتعلقة ببيئة الاستثمار، ستظلُّ مشكلة الموارد المالية قائمة. هذه المشكلة ستقصمُ ظهر الاقتصاد لأنَّ قيمة الجنيه ستستمرُّ في الانخفاض، وستظلُّ الحكومة تلاحق أسعار الدولار دون جدوى، وستقود إجراءات رفع الدعم وزيادة الضرائب والجمارك الأخيرة لارتفاع معدلات التضخم، وسيستمر العجز في الحساب الخارجي، وسيقول وزير المالية :إنَّ (واجبنا هو بث الطمأنينة في نفوس الشعب السوداني) !! وسنقول نحن : "لا حول ولا قوَّة إلا بالله". ا