ظللت أرجي النظر في دراسة عن صورة الزعيم الخارق ونفوذها على الحياة العامة السودانية عرض لها الدكتور غازي صلاح الدين بمثابة "قراءة سريالية" لعالم ود ضيف الله من خلال كتابه ذائع الصيت، وكان الدكتور غازي قد نفحني نسخة إلكترونية من الدراسة - التي نشرت مسلسلة قبل ستة أعوام في صحيفة الرأي العام – لعل بعض ما فيها يكون استكمالاً لما أصبو إليه من التعليق حول الشخصية السودانية مما تفضَّل الدكتور غازي وأدلى دلوه فيه ليُلحق مع إفادات أخرى بالطبعة الثانية من الكتاب الذي استضاف رموزنا فعلَّقوا على شخصيتنا كما عاشوها وعاشوا معها. وإرجاء الإطِّلاع على كتاب أو دراسة أو قصاصة بإبقائها قلقة على أرفف مكتبة البيت مما لا يسلم منه باحث أو قارئ، غير أن إتمام قراءة الدراسة المشار إليها بدا أعظم من أن يهبني مجرّد لذة الفراغ من مهمة مؤجّلة طال قعودها على قائمة الانتظار جذلاً بالوثوب إلى مهمة أخرى ربما كانت أطول انتظاراً على القائمة ذاتها. في قراءة عالم ود ضيف الله السريالية هذه وقفت على غازي صلاح الدين كاتباً ومفكِّراً أكثر مما فعلت في أي وقت مضى، فوجدت فيه من أصالة البحث استنباطاً للأفكار وعرضاً لها ما يدعو إلى الاحتفاء به على صعيد الكتابة مثلما يدعو إلى الاحتفاء به على صعيد السياسة - صياغةً وإنفاذاً – وهي الجانب الأكثر ذيوعاً من صيت الرجل. الأهم في قراءة الدكتور غازي لود ضيف الله أنها تأخذه على محمل الجد وليس التقديس – لجاذبية الصوفية وسطوة التراث – أو الإنكار كما هو مشهور عن الذين تعرّضوا لكتاب الطبقات سواءٌ من عامة القرّاء أو خاصة المثقفين والمعنيين بمحتواه، وهكذا فإن الباحث قد وفى بشرطه عندما رأى أن يُقرأ كتاب الطبقات "باعتبار أنه رؤيا وراء – واقعية، وكتاب نتفحص من خلاله تكوين البنية النفسية والعقلية في السودان الأوسط في القرون الخمسة الماضية". يذكر الدكتور غازي أن قصة القاضي دشين المشهورة مع محمد الهميم – الذي زاد في نكاحه من النساء عن المقدار الشرعي وجمع بين الأختين كما يروي الكتاب - هي ترميز للصراع الأزلي بين الفقهاء والأولياء، وهو إذ يستبعد ما نُسب إلى محمد الهميم - الذي احتج أحفاده على القصة وكذبوا ما ورد فيها من اتهامات – يرى أن "الدلالات المستخلصة من هذه الروايات هي أن القدرة على إحياء الموتى ومخاطبة الحيوان بلسانه مما لم يتفق إلا للأنبياء، والتفويض بمخالفة ظاهر الشريعة، كما يقول بعضهم، هي من الكرامات الخاصة وتأخذ كلها من نفس النبع، وهو أن الولي له تفويض خاص يبيح له الاستثناء، بحيث لا يعترض على أفعاله ولا تعتبر مخالفة لحقيقة الشرع"، ويستطرد الدكتور غازي: "ربما من هنا ترسخ في المخيلة العامة مفهوم الاستثنائية ولا نهائية الأحكام، ويعني أن الشيخ أو الزعيم أو صاحب السلطة يجوز أن تبلغ مرتبتهم درجة الاستثناء من السنن العامة. وبذلك يمكن لأي نص قانوني أو شرعي أو حكم قضائي أن يصبح لا نهائياً، أي قابلاً للتعديل والاستئناف إذا تدخل الزعيم فاستخدم سلطانه الاستثنائي الذي يستمد من معين الغيب". وإذ يرى الدكتور غازي أن "المآخذ التي ذكرها القاضي دشين في معرض احتجاجه على الشيخ الهميم بعيدة الاحتمال في مجتمع محافظ ومتشدد في مسألة الأنساب ومتشرب بالقيم الدينية كما كان وما يزال مجتمع السودان"، فهو يذهب إلى أن "إجابات الشيخ محمد الهميم الجافة لم تكن نابعة من إقرار بما اتهمه به القاضي دشين بل من أنه لم ير نفسه ملزماً بالإجابة على أسئلة القاضي واتهاماته". وكان محمد الهميم قد رد على اتهامات القاضي دشين قائلاً: "الرسول أذن لي والشيخ إدريس بيعلم"، ولما قال الشيخ إدريس - الذي كان حاضراً – لدشين: "اترك أمره وخل ما بينه وبين ربه" قال دشين: "ما بهمل أمره وقد فسخت نكاحه"، فقال الشيخ محمد الهميم للقاضي دشين: "فسخ الله جلدك". وتمامة القصة كما يريدنا ود ضيف الله أن نقف على مغزاها أن القاضي دشين قد مرض كما يقال مرضاً شديداً حتى انفسخ جلده، ومن دلالات القصة كما يرى الدكتور غازي أنها "رويت فعلاً في ذلك الزمن البعيد ولم تثر روايتها آنذاك الاعتراضات التي أثارتها الآن". وأودّ أن أعقب على رؤية الدكتور غازي للقصة بما يوضح المفارقة في انقلاب المجتمع وليس فقط التحوّل في قبوله لدلالات قصة سكت عنها مرة وجادل في شأنها مرة أخرى. والأهم هو أن ذلك الانقلاب في سلوك المجتمع – وليس فقط في مواقفه السلبية قبولاً أو رفضاً – يحدث في غضون عقود يسيرة وليس على مدى قرون طويلة. إشارتي هنا ليست إلى قصة جرت بل إلى الواقع أواسطَ القرن الذي مضى من شأن حياتنا الاجتماعية من وجهة نظر دينية خالصة، ولا أظن أن جدالاً ذو بال يمكن أن يدور حول أننا كنا شديدي التساهل في أمورنا الدينية حينها إذا كان مناط الحكم هو رؤية مجتمعنا اليوم للدين بصفة عامة تجاوزاً عن مذهب محدّد أو جماعة بعينها. ولا أرى بأساً – من باب التذكرة فقط وليس البرهنة – في أن أورد قصة خالٍ لأحد أصدقاء الدراسة كان يتوضأ لصلاة الظهر يوم عرسه ومّرت عليه أمه في فناء البيت وهو على تلك الحال فانتزعت منه الإبريق وهي تخاطبه منزعجة: "دا يوم صلاة دا؟!"، ولا نشكك في أن الأم نفسها كانت محافظة على صلواتها (رغم أن المَرَة الصلّاية لم تكن من صفات النساء الجاذبات يومها) فالشاهد في القصة أن الانصراف إلى شؤون الآخرة كالصلاة لم يكن حينها في عرفنا مما يجدر بالعريس ليلة عرسه (وربما طوال شهر العسل). وحتى منتصف السبعينيات الماضية كانت صلاة الجمعة في منطقة عامرة في قلب الخرطوم كحي الزهور مما يستلزم شد الرحال إلى منطقة مجاورة كديم التعايشة (أو نمرة اتنين على الطرف المقابل مادياً ومعنوياً)، وربما طال الانتظار حتى أواخر السبعينيات لاستكمال أول مسجد جامع كبير في العمارات يسمح للمصلين من حي الزهور أن يكسبوا أجر الذهاب إلى الصلاة كما ظلوا يحلمون خطوة بخطوة، واحدة تكتب حسنة وأخرى تمحو سيئة. وكانت التراويح في الحي ذاته تسعها زاوية شهيرة على تخوم الحلّة لا أذكر سواها، أما إقامة الصلوات الخمس في المسجد فقد كانت في ذلك الزمان غير البعيد مما يتيسر لمن هم في منزلة أولياء ود ضيف الله ومريديهم المرابطين وليس لعامة السودانيين بحال حتى من جاور منهم مسجداً إلا ما ندر. في ذلك الزمان أيضاً كان شائعاً أن يفطر الواحد في رمضان لغير سبب عندما يُسأل عنه أصدقاؤه سوى أن "فلان أصلو ما بصوم" غير مستنكَر استنكاراً ظاهراً، وليس أقل شهرة في باب تبرير القعود عن أركان الإسلام قولهم "فلان ما بصلِّي"، والتبرير كما يرى القارئ ليس سوى الإشارة من باب التقرير. إذا كان ذلك يحدث عندنا في عفوية (وبراءة؟) قبل أقل من أربعة عقود، أليس ممكناً - بمنأى عن تعقيدات قصة القاضي دشين مع الشيخ محمد الهميم - أن تكون تجاوزاتنا من قبيل المذكور في طبقات ود ضيف الله في ذلك العهد القصيّ بعيدة عن الخيال؟.