في العام 280 قبل الميلاد انتصر الملك الاغريقي "بيرهوس" على جيوش الرومان في معركة حدثت فيها مقتلة عظيمة لجيشه وفقد فيها كل قواده، فلما رجع الي بلاده ووقف خطيباً في شعبه مهنئا بالنصر صارحهم بقوله: "نعم! لقد انتصرنا ولكن إذا انتصرنا هكذا مرة أخرى قضي علينا". وبالأمس صور لنا الإعلام نتائج المباريات الودية التي خاضتها فرقنا بالخليج العربي وكأنها انتصارات فلو انتصرنا هكذا في كل مرة قضي علينا في كل مرة نواجه فيها فريقاً أجنبيا. فلنسم الأشياء بمسمياتها: النصر نصر والهزيمة هزيمة. هذه هي أولى خطوات الإصلاح ليس في مجال الرياضة وحده بل في كل المجالات. فالناس في الغرب الذين تقدموا علينا لم يتقدموا إلا بالصدق مع النفس وتسمية الأشياء بمسمياتها. مما قيل في القوانين: "إن الناس تكفيهم القوانين في هذه الحياة الدنيا، أما العدالة فسيجدونها في الآخرة)". ومما أثر عن الإغريق تشبيههم للقوانين ب"بيوت العنكبوت"، يقع في حبائلها الصغار، ويعصف بها الكبار. فلنجعل من احترام القوانين شعاراً لنا، وألا تكون الحصانة عائقاً في سبيل تحقيق العدالة وتطبيق القانون. فنحن أمة تؤمن بأنه ما هلك الذين من قبلنا إلا انهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. الجدل حول العلاقة بين العرف والقانون لا يتوقف، وكثيرا ما يسود العرف على حساب القانون. قبل بضعة أعوام نشرت إحدى الصحف أخباراً كاذبة ضد هيئة الغابات. وبذلت الهيئة حينذاك كل جهدها لمعالجة الإشكالية مع الصحيفة بالتي هي أحسن إلا أن جهودها باءت بالفشل مما اضطرها للجوء إلى القضاء فأنصفها، ونالت الصحيفة جزاءها إدانة وإيقافاً وغرامة، ولكن الصحيفة تكتمت على الخبر ولم تنشره كما لم تشر إليه أي صحيفة أخرى، فاضطرت الهيئة إلى محاولة نشره إعلاناً مدفوع القيمة فاعتذرت جميع الصحف عن نشره –عدا واحدة- بحجة أن المدان صحيفة زميلة. فكتب رئيس تحرير الصحيفة المدانة معاتباً تلك التي نشرته قائلاً: (احدهم على غير العرف الصحفي نشر اعلانا صفحة كاملة ضد (... ) مدفوع الاجر، يفتقد للحد الادنى من اللياقة ورفقة المهنة ونخوة السودانيين لا من فقر ولا من املاق ولكن قاتل الله الشره ..(عزيزي سين) اننا لا نعدك بأكثر من أن اي اعلان عنكم لن ننشره بأجر او بغير اجر ولكن لن نمنع اقلامنا عنكم بالعتاب. حتى تدركوا أن لهذه المهنة شرفاً وخلقاً وعراً ومروءات)). وفي العام الماضي (2013) تكررت ذات الحكاية، فبعد أن أدينت إحدى الصحف لاتهامها هيئة الغابات كذباً، تكتمت الصحيفة على الخبر فاضطرت الهيئة إلى تعميمه على جميع الصحف أملاً في نشره على صفحاتها فنشرته واحدة فقط دون تردد بينما اشترطت البقية نشره إعلاناً مدفوع القيمة، بحجة أن الصحيفة المدانة صحيفة زميلة. لقد راعني أن يتناصر بعض من أهل الصحافة لبعضهم البعض بميثاق ينصر الأخ فيه أخاه ظالماً أو مظلوماً بالمفهوم الجاهلي للنص، ويحرم فيه المتهم بقصد أو دون قصد من رد الاتهام والدفاع عن النفس. فإن كان من واجب الصحافة معالجة الخلل الذي يصيب طريقة اتخاذ القرار الحكومي فالأولى لأهل الصحافة النظر في مسألة تصحيح مفاهيمهم وتنقية مواثيقهم، لإحداث رأي عام راشد يحتقر المتاجرة بالكلام والانتصار للنفس بالانتقام من الآخرين كما قال الدكتور عبدالله علي ابراهيم. فالرأي العام إذا ما تشوشت أفكاره –يقول سلامة موسى-اختلت موازينه وساءت أحكامه وصارت القوانين كلها في حكم العدم أو ما يقارب ذلك. ولعل أكثر ما يؤدي الى اختلال الرأي العام – يقول الدكتور منصور خالد- النأي عن المجاهرة بالحق وحملات التشهير واغتيال الشخصية من منابر لا يملك الناس فيها وسائل وإمكانات الرد على الاتهام مما يحمل الشرفاء علي الانكماش. فالأمم لا يبنيها الا الرجال الاقوياء بقوة فكرهم وخلقهم. ولن تتأكد هذه القوة الا بالتوقير لا بالتحقير. قيل الصحفيين أربعة أصناف: صحفيون موضوعيون محايدون هدفهم البحث عن الحقيقة والدفاع عنها، وهؤلاء غالبية. وصحفيون ناشطون يبذلون كل جهدهم في البحث عن المعلومة ويحاولون عكس الحقيقة بصدق، ولكنهم يصرحون بآرائهم علناً ولا يتظاهرون بالحيادية وهلاء كثر. وصحفيون دعائيون يبذلون كل جهدهم لخدمة أجندة سياسية محددة وهولاء بضع فئة. وقلة قليلة من الصحفيين يدعون الموضوعية والحيادية، ويكثرون من الحديث عن القيم المهنية، ولكنهم لا يعملون بها عن عمد أو عن جهل، لأنهم غير مدركين للقيم الصحفية الصحيحة. كل من هذه الأصناف الأربعة مهم ومفيد ولا غنى عن أي منها، حتى الصنف الأخير فهو في كثير من الأحيان خيره أكثر من شره، فهو بمثابة العدو الذي يتصيد الأخطاء ويهديها لك، فمن العداوة ما ينالك نفعه كما يقول المتنبئ. وكما استفتحنا بالرومان نختتم أيضاً بالرومان الذين برعوا في نحت التماثيل واشتهروا بإقامة الكثير منها لمشاهيرهم. وقد سأل أحدهم مرة رجل الدولة الروماني المرموق (ماركوس بورسيوس) الملقب بكاتو الأكبر، قائلاً: ما بالهم لم يرفعوا لك تمثالاً كغيرك. فأجاب: أحب إلي أن يسأل الناس لِمَ لَمْ يرفعوا لي تمثالاً من أن يسألوا: لم رفعوا لك هذا التمثال؟ وروي عن المؤرخ (بلوتارك) قوله عن صغار الناس في كبار المناصب: إنهم كالتماثيل الصغيرة التي تضؤل في النظر كلما ارتفعت قواعدها. ف"أنزلوا الناس منازلهم". وضعوا الرجل المناسب في المكان المناسب. كانت تلك قراءات في التغيير والإصلاح نرجو أن ينفعنا الله بها.